الشيخ أمين الدشناوي.. ريحانة المداحين
يكتبها: فوزي صالح
سيج صوته من خامة مثيرة للاهتمام.. متوسط الحدّة أجش يعتمد على أساليب تعبيرية يضع يده على عينيه وهو ينشد.. ويؤكد: أنا وجمهورى فى ملكوت واحد انتظرت 4 ساعات لموافقة المحتل على الدخول.. ورفعت حذائى فى وجههم ونمت على تفاوت أعماقها الخيالية والرمزية، وحتى فى أبسط تجلياتها، تقف التجربة الصوفية فى مصر على مسافة بعيدة عن المواقف الفقهية المتشددة، ساندة خيمتها الفسيحة على عامود الموسيقى، لتؤسّس به الركن الأول لفن المديح. نأى واعٍ عن مزاج الصحراء الفزع من النغم، فالسماع كما يرى الشبلى «ظاهره فتنة، وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حل له استماع العبرة، وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية». فى سن مبكرة جدًّا، هى التاسعة، بدأ -كما حكى لى- أمين تقى الدين محمد أمين، المعروف بـ«الدشناوى»، نسبةً إلى محل ميلاده بدشنا جنوبى مصر، بدأ ريحانة المنشدين مشواره فى هذا العالم الرحب. كانت وقتها صناعة السكر تحتل الصعيد، وكانوا ينبون مصنعًا جديدًا فى المدينة، وحين يجىء المهندسون والمشرفون إلى المصنع «يطلبونى بالاسم ويضعونى فوق كرسى ويطالبوننى بالمديح. وابتدأ أكثر من خمسين فردًا يسمعونى وبقوا ميّة، ثم زادوا إلى أكثر من ذلك»، ومنها نمت شهرته بين أهل المدينة، وبدأ اسمه يشيع بينهم كمداح موهوب يقبلون على فنه ويلمسون صدق موهبته. «نمت بداخلى هبة المديح، وانشغل قلبى بمحبة النبى، صلى الله عليه وسلم، وآل بيته والأولياء الصالحين». «وفى سنة 1977 سافرت إلى القاهرة. وهناك تغيَّرت كل الأوضاع، حيث طُلب منى أن أسجل بعض أشرطة الكاسيت، وسجَّلت الكثير، وحتى الآن هذه الأشرطة متداولة». تسأله: هل لزامًا على المداح أن ينتظم بإحدى الطرق الصوفية؟ فيجيب مبتسمًا: «أنتمى إلى كل الطرق، وأحب كل الطرق وكل مشايخ الطرق. أنا محب لكل الطرق الصوفية، ولا فضل عندى لطريقة على أخرى. أنا محب وأنا ابن الطرق الصوفية جميعها». هذا الانفتاح على التصوُّف باتساعه كان عنصرًا أساسيًّا فى تجربته، ويراه «أحد الفوارق بين المادح والمنشد». ويؤكّد «انتمائى إلى العصبة الهاشمية، ونهجها حب جميع الطرق، وجميع مشايخ الطرق. فأنا أحب جميع الصالحين، وهذا عهد مشايخى علىّ، بل وأحب كل أشعث أغبر لو رفع كفّيه إلى الله لأبره»، ولا ينسى أن يضيف: «والعصبة الهاشمية أفكارها تتلخّص فى أن الحياة من الله، سبحانه وتعالى، وحب النبى، صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة عليه، وحب آل بيته والصالحين». سيعترضك الشيخ أمين إذا ما ظننت أن وضعه اليد فوق عينه هو هيام فى ملكوت خاص به منفصل عن ملكوت جمهوره، سينفى هذا التصوُّر الشائع عن الهيام والوجد الذى يكتنف المداح، ليقول لك: «عفوًا، أنا وجمهورى فى ملكوت واحد. فأنا بفضل الله، عز وجل، وبعطية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، آخذ الجميع، لأصل معهم إلى ملكوت غاية المنى حبيبى رسول الله، صلى الله عليه وسلم». ويفسّر هذا المسلك «وتسألنى هل تتمنى لو كنت تنظر فى أعينهم، أو تتابع كيف يطربون لكل ما تؤدّيه، نعم ترانى مغمض العينين، وكل جمهورى يحترم ذلك، ويعلم أن لها سرًّا عظيمًا، فيعلم الله، سبحانه وتعالى، أن إغماض عينى أشاهد به ما أقول، حتى قد تحسبها أنت وربما يرى فيها غيرك ممن قد يتهم أهل الطريق بشطحاتهم أنها من حضرة الخيال، لكننى أقول إنها من باب قول الله تعالى (وأما بنعمة ربك فحدّث)» ويحسم رأيه: «حاشا لله أن يكون غيب ناظرى عن جمهورى سوى حقيقة فى وجه المحبوب». ثم سرعان ما يستدرك: يا سيدى ومَن قال لك إنى لا أراهم ولا أرى عيونهم.. أرى الجميع، ألم أقل لك عطية من الله، سبحانه وتعالى، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: (تنام عينى ولا ينام قلبى)؟ إن كان الحبيب الأعظم، صلى الله عليه وسلم، لى ناظر وللجميع ناظر، فكيف أفكّر فى عيون غيره. وهذا أيضًا فرق خاص للفقير إلى الله الراجى عفو مولاه وقرب حبيبه المصطفى. فكما يقول ابن الفارض: علّمَ الشَّوقُ مقلتى سهرَ الَّليْلِ، فصارَتْ، مِنْ غَيرِ نوْم، تراكا فاتهامى بالحبِّ حسبى وأنّى بينَ قومى أعدُّ منْ قتلاكا نسيج صوت الشيخ أمين الدشناوى من خامة متميزة، مثيرة للاهتمام. هو صوت متوسط الحدّة، أجش، يعتمد على أساليب تعبيرية فى تصويت الحرف، من أهمها الإلقاء المنغم، أى الغناء على نغمة أو نغمتَين، هذا مع تفادى الالتئام مع الضغوط الطبيعية للإيقاع من الموسيقيين المصاحبين، وهذا مما يزيد من ضغطه، ولعل أهميتها تكمن فى خلقها لنوع من التوتر الذى يُزيد من توتر الانفعال الموسيقى. كما أنه يميل إلى ما يمكن اعتباره «تزلجًا لحنيًّا»، فكثيرًا ما يخرج عن الطبقة أو المقام، ثم يرتد إليه وينتهى من هذا فى العادة بشهقة هوائية، فإذا أحببنا أن نرسم صوت الدشناوى سنجد خطًّا خشنًا تنبعث منه سحائب تأسر السامع. صوت الشيخ أمين الدشناوى له رنّة مكبوتة غير صريحة، تصحب لازمته الجسدية من تحسس منطقة الصدغ وأسفل العينين. هكذا يسبح بنا ريحانة المداحين بتقطيعات صوتية أكثر مرونة فى مصاحبتها للكلمات المُغناة. ينتقى من واسع ثقافته اللحنية، ليُضفى عليها من بريق المقامات ما يناسبها ويستعير من الألحان المشهورة ما يتوافق معها. كما يحرص على «التضمين» للزمات موسيقية من أعمال جماهيرية كنوع من الحرص على ربط المستمع بألفة مع حالة الذكر. كذلك يتميّز الشيخ أمين الدشناوى فى ربطه بين عدة قصائد شعرية لشعراء متعددين، مشايخه تبدأ من الإمام العربى لشيخه أحمد أبو الحسن، لابن الفارض، وغيرهم من شعراء التصوُّف. يصف الشيخ أمين فلسفته فى اختيار الكلمات والألحان، قائلًا: «فكل قصيدة قد أجد لها لحنًا معينًا فى ليلة اليوم وألاقيها فى نفس اللحن. مثلًا يكون عندى ليلة بعد غدٍ، فأريد أن أقول نفس القصيدة، فأجد اللحن قد اختلف وأصبح أجمل، وهذا من عطاء الله، سبحانه وتعالى، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، فأجدنى أرتجله وأنا أمدح. وما وقفت معى قصيدة، ولا نسيت بيتًا من قصيدة، إلا وعوضنى الله بأجمل منها، وحينما أعود لخلوتى أسمع تسجيل الحفل فأحفظ ما قلت». يتيه الشيخ أمين فى وجده ومعه أعضاء فرقته من الموسيقيين. زمرة محدودة معتادة على أسلوبه الفريد، يصاحب صوته عازفون للناى والكمان والعود بخلاف الإيقاع. «ممكن يكون أقل أو أكثر، ثابتين وأحيانًا يتغيرون، لظروفهم الخاصة وبُعد السفر». الحالة الموسيقية التى تضعنا فيها تجربة الاستماع إلى الشيخ أمين أقرب إلى حالة السير الشعبية، حين تنصت إلى إحدى وصلات الشيخ أمين الدشناوى بمولد السيدة نفيسة هذا العام، ستجد المقامات الموسيقية الرئيسية مقامات براقة كالراست والعجم، يضفّرها فى المنتصف بجمل لحنية ملأى بالشجن من مقام البياتى، لينتقل بعدها ويُركّز على سيد المقامات الشجية مقام الصبا. اختيار واعٍ يصاحبه إيقاع «الملفوف» فى تركيبة مدهشة تحمل صدى أداء السّير الشعبية. وتكشفها بشدة مقاطع عزف الكمنجة التى يداعبها العازف بحيل مبدعة، لتوحى بأنها الربابة، سيدة عزف السيرة الشعبية. فى هذا المقطع يبدأ الدشناوى بالأبيات التالية: «سألت الله أن يملئني حبا له و لحبه حتي أذوب وأقتل في محبته شهيدًا وأبقي علي المناهج والدروب بدمي وعني قولوا: لقد كان الشهيد له وقودا واجعلوا مأتمي فرحا و حبا وبعدي اخوتي دقوا الطبولا» ورغم المعنى الشجيّ يأخذ الإيقاع المُصاحب وجهة راقصة، يُحيي أجواء الجنوب من تحطيب ورقص الخيول. الإيقاع الصعيدي من مقسوم صعيدي، إلى ملفوف وأيوب يلون أجزاء المقطع جميعها، باستثناء البداية، حيث مدخل حر خال من الإيقاع وكأنه موال يُمهد به الشيخ أمين إلى القصيدة الأساسية بأبيات في الحب والشهادة والتوق والفروق بين نشوة الخمر الجسدي والروحي. في هذه البداية يسيطر مقام الراست ثم سرعان ما يتحول إلى مقام العجم والذي يُعطي تلوينا أقل إبراقا من مقام الراست دون أن يتنازل عن حالة البهجة. التمهيد الأول فيه الراوي يحدث يصدح بالحكمة، بإلقاء تعبيري منغم من مقام الراست وبتقطيعات إيقاعية توضح الكلمات بحيث نصل إلى أول ذروة إنفعالية مع "وبعدي إخوتي دقوا الطبول" ليدلف إلى الجزء الأول الموزون بإيقاع الملفوف حيث تتأرجح فيه الموسيقى ما بين مقامي البياتي والكرد. من بعد وصلة لحنية تستخدم ألحانا شائعة محببة، يجنح الشيخ الدشناوي في اجزاء منها عن المقام الأساسي "بياتي" فيميل نحو الكرد، تلحظ ذلك خاصة في أبيات الشاعر حسن جاد حسن : للروح خمر وللأجسام خمرتها شتان بينهما والكل قد تاهوا فخمرة الفم كم تهوى بشاربها إلى حضيض من الأرجاس مهواه وخمرة الروح كم يرقى بذائقها" ثم يعود إلى الراست مع ذكره للذوبان في الذات الإلهية الذي يستدعي حالة التوحيد ثم يتحول إلى مقام العجم الصرف بحر الحقيقة أسرار محجبة من خاض لجته يعرف خفاياه ثم نرجع إلى اللحن نفسه الذي ابتدأت به، ولكن من مقام العجم مع " زور دار ودا إذا أردت ورودا، وارجع و زر دارا رأت داودا ". على أثر هذا التمهيد تحضرنا الذروة الانفعالية الثانية، حيث الاتكاء على مقام العجم هبوطا تتلوها قفزات بعد ذلك تعرض منطقة عريضة منه تهتم بالقرارات الخفيضة ونلحظها جلية مع " ان لم يكن لي من جاه يجمعني بالصالحين فلي في حبهم جاه ". وفجأة يتغير الوزن الإيقاعي الموسيقي ليصبح راقصا وكأنها حالة عرس، رغم أننا في حضرة مقام شجي مع دخول : يا نسبة ادخلت سلمان في النسب بقول طه رسول الله خير نبي سلمان منا بآل البيت ألحقه مع أنه فارسي ليس بالعربي أبيات المتصوف الحموي عبدالغني النابلسي، تتكرر أكثر من مرة ما بين مقامات الكرد والبياتي والصبا. والأولان يختلفان في نغمة واحدة فقط (نغمة الدرجة الثانية) حيث تستخدم نغمة السيكاه في البياتي مما يُضفي عليه لونا أكثر طربية من الكرد، وبالطبع تلوين الصبا يُضفي الحزن كما هو متعارف عليه. ولعله من الجميل هنا نسج هذه المفارقة بين عرس الإيقاع والآلات وردودها اللحنية وبين الثلاث مقامات هنا التي تضفي ظلالا من الشجن. .أما عن التضمينات من الألحان المعروفة فسنلمح جملة لحنية من "وأنا كل ما اقول التوبة" لكن بوزن إيقاعي مختلف، حيث تتكرر النغمة الأولى كثيرا، قبل تدفق بقية اللحن. ثم يتحول المقام إلى صبا صريح عند الخاتمة في هذا المُقتطف، مع صدح الشيخ أمين بكلمات للشيخ عبدالله الشبراوي " يا آل طه قال لي قائلٌ رأيتكَ تَهوَى آلَ طهَ ودائماً ترتجيهم كان حقاً عليك أن تقضيَ العمرَ مادحاً فيهم وفي من يليهم أنا لا أستطيعُ مَدْحَاً لقومٍ كان جبريلُ خادماً لأبيهم" وهنا يختطفنا صوته لذراه الانفعالية الأخيرة، ونحن مازلنا في مقام الصبا متكئا على لحن شائع، ليتحول مسار اللحن في مديح الشيخ أمين إلى ساحة العجم حيث يتلاقى وحزن الصبا. انتقال من غير الفرقة وتكرارها الأول بعد وصلة الصبا من الآلات وخاصة الكمنجة، يجعلنا ننُصت بإنتباه. في كتابه كشف المحجوب يقول المتصوف الهجويري: "اعلم أن السماع وارد من الحق وتزكية لهذا الجسد من الهزل واللهو ولا يكون طبع المبتدئ قابلاً للحديث الحق بأي حال. وبورود ذلك المعنى الرباني يكون للطبع انقلاب وحرقة وقهر، فجماعة تفقد الوعي وجماعة تهلك ولا يوجد أحد يخرج طبعه عن حد الاعتدال في السماع".
مصدر الخبر التحرير الإخباري
التسميات: فنون
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية