17‏/11‏/2017

خُد نايبك يا بحر

بقلم عبدالناصر أحمد 
فوق المجُور الفُخّاري المقلوب يجلس الطفل المنكوب " حسّان" ذو الخمسة اعوام منتظرا عم رشدي الحلاق لكي ( يقطع له ) والمراد بالقطع هنا هو إجراء عملية الختان او الطهور بدون حقنة بنج أو مخدّر موضعي . فلربما لم يصل العلم الحديث وقتها إلى ذلك الإختراع المذهل الذي يسمى البنج والذي عرفنا فيما بعد أنه أفاد البشرية أكثر مما أفادته فيمتو زويل صاحب نوبل لشدة ما يلاقيه المختون من ألم  . 
كنا نتساءل لفترة طويلة ولماذا يجلس المختون على مجور فخاري مقلوب فربما يكون هناك مرجع شرعي أو فائدة صحية . عرفنا بعد أن كبرنا أنه فقط بسبب عدم وجود كرسي خشبي أو خيزران مناسب يجلس عليه المختون . 
تتعالى صيحات الطفل حسان وتوسلاته الفاشلة للجميع بعدم لمسه أو الإقتراب منه كيف لا وقد شحذ عم رشدي شفرتهُ المعدنية على "القشاط" وهو قطعة من الجلد يمرر عليها عم رشدي الموسى ذهاباً وإياباً حتى يصير حاداً  . 
شباب اشدّاء من ذوي الطفل يمسكون به كي لا يتحرك فيؤذيه الموسي وهو يصرخ أسفل منهم صرخات أشبه ما تكون باستغاثة ملهوف قد أشرف على الهلاك  . 
يرتدي حسّان جلباباً ابيضاً "قميصاً" وقد زركشتهُ له أمه بمساعدة جاراتها وقريباتها بالحنّاء وقد ربطت في عنقه شيئا من ذهب حتى لا "يتشاهر" أي حتى لا تصبه العين فتحدث له مضاعفات بعد القطع .
لا يقل ذلك الألم وتلك المعاناة عند المختونات ايضاً وإنما حظين بظروف أفضل بأن عملية ختانهن قد تمت في سرّية تامة وفي صورة جماعية دفعةً واحدة في بيت احداهن . 
يمسك عم امين المساعد ب " صحن الفتّة" وقد غطاه بمنديل محلاوي عريض تدلّى من جوانبه واضعا إياه بينه وبين عم رشدي ليجمعا فيه النُقطة ويرفع صوته كلما وضع أحد المحبين والأقرباء قطعة معدنية ( حتّة بخمسة للمقتدرين) في الصحن " فضة خلفت خير" . وتتوالى النقطة ولا يتوقف عم امين عن: ( وخالتك يا أمير وود عمك يا أمير وجدك يا أمير ومحبينك يا أمير  .....) ليمتلئ الصحن في وقت قليل بالنقود ذات الفئات المختلفة بدءا من التعريفة وصولاً إلى الخمسة والعشرة قروش. ويكرر بصوته الجهوري في كل مرة ( فضة خلفت خييييير ) . 
اجتماع مهم لنساء القرية لمساعدة أم حسان في بيتها لطبخ الزغل من مرق لحم الضأن أو الماعز وإعداد الفطير بالتقالي و القُشّة ( الكمّونية) وليمةً للأمير حسان  . 
يقف عم يوسف جد الأمير على باب المنزل ليطلق بعضاً من الأعيرة النارية من بندقيته الكسر وقد حشاها بكُرات البارود وسط تعالى اصوات الزغاريد فرحا بطهور حسان . 
ما أن ينتهي عم رشدي من عملية الطهور  وقطع تلك الحلقة الجلدية الصغيرة "الجلدة" إلا وتلقفتها ايدي النساء فيضعنها في نصف رغيف من العيش الشمسي وتتحرك معهن جموع الأطفال إلى نهر النيل حاملين حسان بوضعيةٍ خاصة لترمي تلك الجلدة في البحر ويردد الجميع اهازيجهم الخاصة بتلك المناسبة إذ كان أشهرها " خُد نايبك يا بحر" ويردد الجميع كورالا جميلا " خد نايبك يا بحر"  . وأغلب الظن انها عادة فرعونية اذ كان يعتقد القدماء أن المختون سيكون أكثر خصوبة عندما يكبر ويتزوج ويفيض بالذرية الكثيرة كما يفيض النيل . 
فقد الطفل كمية من الدم لا يعوّضها إلا وجبات العصيدة بالعسل الأسود والسمن البلدي في الصباح ولحوم الطيور ظهرا والبلح المغلي باللبن في العشاء .
يعود أهل المختون ومحبوه إلى المنزل مرة أخرى ونساء القرية في الطريق ينثرن فوقه " البسلة" التي جمعتها فتاة بكر من عدة بيوت ومن غلال مختلفة وقد تم وضعها أعلى سطح المنزل قبل يوم مضي مكشوفة حتى لا يحجبها حاجب بينها وبين النجوم وتسمى تلك العملية بالتنجيم .
 تذُر النساء من شُرفات المنازل على رؤوس المحتفلين حلوى الطوفي والبلح اليابس والكرملّة والفول السوداني وهن يزغردن فرحا وابتهاجا بطهور الأمير .
يعود الطفل وسط ذلك الموكب المهيب إلى بيته وقد تم ترتيب سريره الجريدي جيداً وقد أجلسه محبُّوه بعنايةٍ فائقة وحرص شديد وقد باعدوا بين رجليه كي لا يحتك جلبابه بعورته فتحدث مضاعفات للجرح " ويتزمل" .
تمنع أم حسان أياً من أفراد العائلة الدخول على وليدها فجأة حال عودتهم من السوق أو من سفر حتى لا يتشاهر .
بعد أيام معدودات يخرج حسان إلى الشارع ليلعب دور الحكّاء البالغ ويقص على أسماع أقرانه الذين لم يصبهم الدور حجم المعاناة التي مر بها والمتاعب التي لاقاها وكيف أنه سعيد ان تجاوز تلك المرحلة و (نفد) فيرتعد الأطفال هلعاً من هول ما سمعوه منه وهم يعلمون انه قد بالغ فى السرد بعد أن أطلق لخياله العنان .
ينصرف عم رشدي حاملا فوق حماره الضخم تلّيساً  به بعض الغلال وفي جيبه بعضا من النقود . تلك التي تم جمعها في الصحن بعد أن أعطي جزءاً منها لعم امين " المُخلف" وترك الباقي لوالدي حسان كي يستعينا بها فترة نقاهة حسان إلى قرية مجاورة ليقطع لأمير جديد .