الفركة النقادية تجربة تنموية .. نقادة في عيون الصحافة
من ذاكرة الصحافة
مقال رائع عن حرفة الفركة في نقادة المقال يستحق المتابعة .
لاقت 'الملاية' النقادية شهرة واسعة الآفاق، خصوصا في العواصم الأفريقية، حيث تتهافت عليها النساء لاعتقادهن أن هذه الملايات تجلب الحظ والبركة.
بقلم: عبدالمنعم عبدالعظيم
تجربة تنموية
أعشق المدن القديمة، أغوص في أعماقها التليدة، استنشق فيها عبق التاريخ، أحس فيها أن عمرى آلاف السنين، أعانق فيها حضارة الماضي والجذور العميقة. من هذه المدن مدينة نقادة التي شهدت حضارة من أعرق حضارات ما قبل التاريخ، فقد قام الباحثان فلندر بترى وكيوبيل عامي 1894/1895 بحفريات بمنطقة نقادة فعثرا على جبانة وأواني فخارية تعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ. ويرجع لبترى الفضل في كشف حضارة نقادة وتعريف الناس بها، وكذلك قام دى مورجان مدير مصلحة الآثار آنذاك بالعثؤر على آثار مهمة بنقادة ومعلومات هامة عن أسرة الملك مينا موحد القطرين.
لقد قسم العلماء عصر ما قبل التاريخ إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى وتسمى حضارة العمرة أو حضارة نقادة الأولى. المرحلة الثانية وتسمى حضارة نقادة الثانية. المرحلة الثالثة وتسمى حضارة السماينة.
كان الإنسان في هذا العصر يعيش في جماعات مستقرة، في قرى منتظمة يعمل بالصيد ثم الزراعة التي أصبحت قوام الحياة لاقتصادية. وعرف الإنسان في هذا الوقت المبكر الغزل والنسج لصنع الملابس وشباك الصيد إلى جانب صناعات أخرى كالفخار. وظلت نقادة التي تميزت حضارتها بأنها حضارة فنية تتوارث أقدم صناعة للنسيج في التاريخ.
ني كاتي التي تحرفت إلى نقادة مدينة الفهم والذكاء، اشتهرت بصناعة الفركة وهى نوع من النسيج اليدوي يعتمد على خيوط مصبوغة من الحرير الصناعي أو القطن تُصنع منها أشكال مختلفة من الأقمشة، أشهرها "الملايات الحريمي" (رداء ترتديه النساء في صعيد مصر والدول الأفريقية)، والشال (يضعه الرجال على الكتف كنوع من الزينة أو الحماية من برودة الشتاء)، وبعض أنواع الأقمشة الأخرى وتتم عملية النسيج باستخدام النول اليدوى البسيط (مجموعة أخشاب مصفوفة بطريقة منظمة تصف عليه الخيوط)، وصناعة الفِركة تبدأ بصبغ الخيوط بألوان مختلفة وجمعها على دواليب يدوية صغيرة، وصفّها على النول اليدوي بطريقة هندسية متوارثة عن الأجداد، ويجلس النوّال أمام النول، يمد قدميه أسفل حفرة النول، يحرك الجزء السفلي من النول، ويستخدم كلتا يديه في عملية شد المضرب من أعلى للضم الخيوط المصفوفة بعضها إلى بعض، وعندما تنتهي الخيوط المصفوفة بجوار بعضها يكون بذلك قد انتهى من تصنيع أول "ملاية"، فيقوم بقطعها، والبدء في تصنيع غيرها، وفي نهاية اليوم يقوم النوال بتسلم أجره من صاحب النول ويكون الأجر على عدد (الملايات) التي قام بصنعها. وتركيب النول لا يختلف عن النول الموجود في نقوش المقابر الفرعونية.
تشكل هذه الصناعة مصدر الرزق الأساسي لمعظم العائلات في نقادة، وكانت أحد المصادر المتميزة للدخل القومي، حيث تعد نقادة المصدر الوحيد على مستوى العالم لهذه الصناعة الفريدة التي ورثوها عن أجدادهم الفراعنة واحتكروها بحرفيتهم ومهارتهم فيها، فضلا عن أن هذه الحرفة وفّرت ما يقرب من 3000 فرصة عمل في نهاية القرن الماضي.
وقد اشتهرت مدينة نقادة بمحافظة قنا بحرف تراثية كثيرة، كالفخار والحصر والأسرّة المصنعة من جريد النخيل، لكن الفِركة السودانية كانت من أكثر الحرف شهرة لدرجة أن مدينة نقادة ارتبط اسمها بحرفة الفِركة زمنا طويلا في مصر والعواصم الأفريقية، فقد لاقت "الملاية" النقادية شهرة واسعة الآفاق، خصوصا في العواصم الأفريقية، كالخرطوم ونيروبي وأديس أبابا وغيرها، حيث تتهافت عليها النساء الأفريقيات لاعتقادهن أن هذه (الملايات) تجلب الحظ والبركة، وتضفي عليهن قدرا كبيرا من الوقار والحشمة وهن يقمن بلف هذه (الملايات) حول أجسادهن الفارهة، حتى إن العروس الأفريقية كانت تشترط على عريسها تقديم عدد معين من هذه (الملايات) ضمن جهازها قبل الزفاف.
وكانت فترة نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عصرا ذهبيا لفركة نقادة، إذ كانت تدر ما يعادل أربعة ملايين دولار عليها وعلى قراها التي احتكرت المنتج، الا أن الظروف التي مرت بها السودان وأفريقيا حالت دون الاستمرار في تصدير أثواب الفركة وأصبحت هذه الصناعة مهددة بالكساد، وبدأ الحرفيون يهجرون هذه الصناعة التي كانت مصدر الدخل الأساسي لأكثر من 900 أسرة فهى صناعة عائلية تمارسها الأسرة بجميع أفرادها، وكادت تذوب وتنزوى.
وقد تعرضت هذه الصناعة أيضا لمنافسة شرسة من قبل المنتجات الصينية والهندية التي تلعب على وتر السعر، فالصين والهند لم تكتفيا بتصدير الخيوط المصبوغة لمصر، بل قاموا بتصنيع وإنتاج مختلف الأقمشة و(الملايات) الصعيدية التي تنتجها الورش المصرية، وصدروها لنا بأسعار زهيدة، لكنها ليست بكفاءة المنتج المصري الذي ظل لقرون طويلة سيد الموقف في الدول الأفريقية.
وإلى جانب العوامل السياسية التي أثرت على العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان، فإن هناك متغيرات في العادات والتقاليد غيرت أنماط الاستهلاك في هذه الدول.
وكان لا بد من عمل يحافظ على تراث الفركة ويمنعه من الاندثار. وكان من المهمومين بهذا أشهر صناع الفركة في نقادة ويدعى شمروخ مقار عبدالشهيد الذي توارث هذه الحرفة عن أجداده وأورثها أبناءه، خائفا على الحرفة من الانقراض.
لقد جمعته الصدفة مع سيدة من نيوزلندا بمدينة الاقصر تدعى جين شيروك كانت من المهتمات بالتراث والحرف اليدوية وشغلتها قضية الفركة، وكانت في طريقها إلى نقادة فتعرفت على شمروخ الذي أتاح لها فرصة التعرف على صناع الفركة وعرضت عليهم فكرة تطوير صناعتهم وفتح أسواق جديدة لها باستخدام نفس الأدوات والخامات فبدأت فكرة تصنيع الشال السياحي والملايات والمفارش وأثواب من القطن والصوف والكتان والحرير، كان ذلك في يناير/كانون الثاني 1980 وأقامت معرض لمنتجاتهم بنيوزيلندا.
وبدات نقادة تزدهر من جديد وغزت منتجاتها التي لاقت إقبالا كبيرا أسواق أوروبا خاصة فرنسا، كذلك الصين وغزا الشال السياحي أسواق خان الخليلي والأقصر والغردقة وأسوان واستخدمته المحجبات حجابا، ونظرا لأهمية هذه الصناعة وكونها تراثا إنسانيا، قامت الدولة ممثلة في محافظة قنا باتخاذ عدة إجراءات من شأنها الحفاظ على هذه الصناعة القديمة من الاندثار لأنها تعتبر جزءا أساسيا من الهوية الفرعونية. وفي الوقت نفسه تعد مصدرا متميزا للدخل لهذه المنطقة التي كانت تقوم بتصدير منتجاتها لمعظم دول العالم، ومن أهم هذه الإجراءات إقامة مراكز تدريب للشباب والفتيات للعمل بهذه المهنة، كما قامت جمععية الشابات المسلمات بنقادة بدور هام فى تنمية صناعة الفركة حيث أنشات مركز تدريب ومعرضا دائما لمنتجات الفركة بقيادة السيدة الواعية والمتميزة وفاء مبارك.
واستعانت الجمعية بخبرات كليات الفنون الجميلة والتطبيقية في تطوير النول اليدوي وعمل التصميمات الفنية للمنتج وتدريب المرأة على هذه الحرفة وإقامة المعارض في القاهرة والمدن السياحية.
ولقد قمت بزيارة نقادة لمتابعة تطورات هذه الصناعة، والتقيت بالتجار وشاهدت تجربة عملية في أحد منازل نقادة حيث استقبلتنا أم كرم اليس يعقوب التي تعمل على النول منذ 30 سنة شهدت فيها عصر ازدهار الصناعة وانهيارها ثم صحوتها من جديد.
وزرت مركز تطوير الفركة والسجاد اليدوي بجمعية الشابات المسلمات والتقيت السيدة وفاء مبارك رئيس الجمعية التي زاملتنا في العمل الاجتماعي ومشروعات قضايا المرأة وتفوقت في مشروعات التنمية في نقادة ومدير المركز خالد علي.
شعرت أنني أمام تجربة تنموية رائدة يمكن أن تكون نموذجا يحتذى في كل قرى مصر، حتى تعود القرية إلى سابق عهدها قريةً منتجة توفر الرخاء والحياة الكريمة لابنائها.
عبدالمنعـم عبدالعظيـم
مدير مركز دراسات تراث الصعيد الأعلى ـ الأقصر (مصـر)
Monemazim2007@yahoo.com
ميدل ايست أونلاين
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية