رحيل السنط قصة قصيرة للـ الطيب أديب
رحيل السنط
قصة قصيرة بقلم:الطيب أديب
أدور يميناً ويسارأً ، أبحث عنه عند
أشجار السنط المتراصة علي جانبي الطريق الصحراوي ، وبينما أنا واقف هناك عند كوبري
القرية ، سمعت ضربات فأسه ترتطم بفروع السنط .. كان معلقاً في قلب الشجرة يصارع
فروعها فتتهاوي من تحته .
( كنا صغاراً وسالم ابن سعد الله يتسلق
فروع السنط البعيدة يرمي " بالقرض " فنقوم بجمعه في حجورنا الضيقة
لنبيعه بالكيلة للحاج عبد العاطي .. نتقاسم القروش القليلة لنشتري الحمص والحلاوة
المطاطة ، ونلهو في أفراح القرية ).
اقترب منه: كيف حالك يا عم
عبد الهادي ؟
-
الحمد لله .
هبط إلي أسفل .. ثم قفز علي
الأرض يلملم فروع السنط ليعيد تقطيعها ..
- أتوبيس المدينة المهترئ يبدو قادماً
.. اقترب من الطريق الصحراوي وأنا أشاور بيدي فيقف .. أجري خلفه .. أصعد .. أمر
بين الجالسين .. الوجوه تبدو عابسة ما زال بعضها يقاوم آثار النوم .. ألمح مكاناً
ضيقاً علي المقعد الأخير .. أقترب منه ، أرمق أحد الجالسين بنظرة فيفسح لي ، أجلس
بجواره .. أخرج زفيراً طويلاً ..
ما زلت كما أنت يا عم عبد الهادي تقاوم كأشجار السنط وأقرانك هجروا القرية
.. بعضهم رحل إلي المدينة يعمل في مصانعها والبعض الآخر هاجر لبلاد النفط ،
وتنكروا الأيام السنط عندما كانوا يتسلقونه يجمعون "القرض" و"
الصمغ" ويقطعون فروعه الصغيرة يخزنونها للشتاء القارس ، الجاموس لم يعد يرعي
في بقايا الحقول ويرجع في الظهيرة يلقي بجسمه الضخم في حضن الترعة الحنون تحت شجر
السنط . والأولاد ينهشون اللقيمات المحشوة بالجبن وأوراق الحلبة ، تحت فروع السنط
المتشابكة .. العصافير الملونة هجرت الأشجار ولم تعد تصدح فوقها .. أقرانك عادوا
يشيدون المنازل العالية ويعلقون فوقها أطباق "الدش" العريضة ، يسهرون
حتى الصباح أمام " التلفاز"
وأنت كما أنت تصارع فروع السنط بجلبابك
القطني الممزق ، وما زلت تعيش وحدك في بيتك الصغير الذي يشبه عشة الطيور ، تحمل
البلاص علي كتفك تملؤه من النيل البعيد ثم تعود تعرج بقدميك الحافيتين ، أربعون
عاماً وأنت تحتطب .. تفترش "طريق السوق " تبيع حزمات الحطب لأهالي
القرية يقاومون بها برودة الشتاء .
ذات مرة دفع له أحد الميسورين من أهالي
القرية عشرة جنيهات في حزمتي حطب ولكنه أقسم أنه لن يأخذ إلا حقه ورد له خمسة
جنيهات .. أقبل علي دكان (مسعود) فاشتري كيلو سكر و"تمنة"شاي صغيرة وأخذ
يركض إلي بيته الصغير .
قدم (رفاعي بن حمدان ) من الخارج فأقبل
علي خاله يلح عليه ليهدم له بيته ويعيد بناءه لكنه توسل إليه أن يدعه علي حاله .
جاءني ابن حمدان وهو يحمل كيساً كبيراً
به بطانية (جلد نمر)،
وصرة صغيرة داخلها قطعة صوف وقطعة شاش
وباكو شاي سيلان خشن .. طرقنا بابه الصغير ففتح لنا مرحباً .. وأسرع إلي كنكة
الشاي السوداء يغسلها ويملؤها بالماء .. أقبل ناحية (وابور الجاز) وقعد يتمتم مع
نفسه .. اقترب مني ابن حمدان وهو يهمس لي : من أين نبدأ ..؟
فشلت محاولاتنا وأعيتنا الحيل في
إقناعه بقبول الهدية ، لكننا نجحنا في إقناعه بشرائها بعشرة جنيهات حملنا بها
حطباً .. كانت فرحتنا كبيرة لأنه سيرتدي جلباباً من الصوف ويتغطي ببطانية (جلد
نمر) بدلاً من لحافه الذي أكلته (القرضة) فجعلته كالشبكة .
رحت أبحث عنه في الصباح فلم أسمع ضربات
فأسه ولم أر أي أثر لفروع السنط .. في آخر النهار رحت أهرول ناحية بيته .. كان
هناك جمع غفير من أهالي القرية . اقتربت من ابن حمدان فوجدته غارقاً في دموعه .
---------------------------------------------
القصة من
مجموعة ( رحيل السنط )– صدرت عن مركز الحضارة العربية- القاهرة العام 2003م.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية