07‏/08‏/2017

التضليل الإعلامي

حسين درويش العادلي
الإعلام

الإعلام ليس مجرد وسيلة إخبار (إعلام) تشتغل لإيصال المعلومة على تنوعها الى المتلقي، إنه صناعة اتصال تفاعلي من خلال المعلومة، اتصال متعدد الأغراض والأهداف والوسائل. وبعبارة أخرى، الإعلام هو فن الإشتغال النظري والتطبيقي على المعلومة الحسية لإيصالها الى المتلقي بغية الإخبار أو التأثير أو التبني. 
المعلومة
الحياة معلومة، هي حصيلة كم ونوع المعلومات غير المتناهي، الحياة تقوم وتتقوم على المعلومة كمادة ودلالة وقيمة وتوظيف، فالمعلومة هي أس الحياة بتنوعاتها المعرفية العلمية التجريبية،.. وكل ما لدينا هو معلومات، العلوم والمعارف والرموز والإشارات والأرقام والأحداث والتجارب،.. وكما المعلومة دلالة فهي دالة وهي أيضاً مورد. والإعلام هو التخصص المهني الأول الذي يشتغل على توظيف المعلومة كدلالات ودالات وقيم وموارد من خلال فن الاتصال، ويتطور بتطور وسائل الاتصال كما في الإعلام الرقمي اليوم والإعلام الجديد (البديل) المعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي الذي يُعد أكبر تحول اعلامي تواصلي استطاع الإفلات من قبضة المركزيات الإعلامية المهيمنة على صناعة الواقع وتوجيهه من خلال صناعة الإعلام، فيكفي كامرا ديجتل وصفحة على الفيس بوك أن تفجر الأوضاع في اميركا أو أوكرانيا أو مصر، ويكفي أن تصنع واقعاً زائفاً لتحقق الانتصار من خلال شبكات التواصل دون معارك على الأرض كما فعلته "داعش" الإرهابية التي تقاتل بالإعلام التضليلي قبل السلاح. يقول مراسل "الغارديان" في بغداد مارتن تشارلوف: "إن الخوف من اجتياح داعش للعاصمة سببه حملات مواقع التواصل الاجتماعي وليس الحقيقة". 

الإعلام صنعة
الإعلام صنعة والمهنة فن. الإعلام هو صناعة التفاعل المعلوماتي (على تنوع المعلومات) من خلال الاتصال، تتكفل به وسائل الاتصال وعالمها المهني الصناعي الفني التقني،.. والإعلامي هو المهني المتخصص بصناعة فن الاتصال المعلوماتي -الهادف الى الإخبار والتأثير والتبني- من خلال وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد والرقمي والبديل. الإعلامي بذلك يكون ملك الاتصال والتواصل بالمعلومة، وهو وإن يكن غير منتج للمعلومة بشكل عام، إلاّ أنه الموظِف الأول لها والخالق لفضائها وموجها لدى الرأي العام،.. فالرأي العام هو نتاج صناعة الإعلام شاء أم أبى، عن وعي أو غير وعي،.. من هنا تتأتى خطورة الإعلام كمهنة، إنها مهنة توظيف المعلومة لصناعة الرأي العام وتعبئة قناعات العامة وتشييد مواقف المجتمعات الوطنية والمجتمعيات المحلية وتنميط وعي الشرائح وقولبة التفاعل الفردي والتحكم بمسارات وعي المتلقي، إنها حكومات الظل الصانعة للتاريخ... يقول عالم الاجتماع الأميركي ريفرز عن وسائل الإعلام بأنها: (حكومة ثانية).
فاعل ومفعول به
الإعلامي هو الفاعل على طول الخط والمتلقي هو المستقبِل وهو المفعول به على طول الخط، صحيح أنَّ الاتصال يستدعي التفاعل البيني بين المرسل والمتلقي ووسيلة الإعلام، لكن بالمجمل يكون الإعلامي (المرسل) هو الفاعل والمتلقي هو المفعول به وهو الواقع تحت تأثير فن الإشتغال بالمعلومة كإخبار غالباً ما يكون مشحوناً بالتأثير لحمل المتلقي على تبني ما يقصده ويستهدفه الإعلامي وما يريده من قناعات واتجاهات سلوك ومسارات تفاعل يتبناها المتلقي (المفعول به) عن وعي أو غير وعي،.. ووفق هذه الأرضية يمكن القول هنا أنَّ الدعاية والإيهام والتلاعب والتوظيف والتضليل ممارسات روتينية للعملية الإعلامية وليس العملية الإعلامية الإعلانية الدعائية وحسب.
التلاعب بالمعلومة
عملية تلاعب بالمعلومة الإعلامية والإعلانية لهدف التأثير والهيمنة على المتلقي (المضَلَل) لتحقيق مقاصد ومصالح الجهة المضلِلَة،.. يقول جوزيف هوبلز وزير الإعلام النازي: "أعطني إعلاماً بلا ضمير، أُعطيك شعباً بلا وعي" إنه مصداق من مصاديق إعلام التضليل وقدرته على تغيير مسارات التاريخ،.. وعلى هذا الأساس يعرّف باولو فرير المفكر البرازيلي المعروف التضليل الإعلامي بأنه: (أداة قهر، فهو يمثل إحدى الأدوات التي تسعى النخبة من خلالها الى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة، وهذه الأداة القهرية تمنح أقلية قاهرة القدرة التي تحول دون ممارسة الأغلبية وجودها الإنساني).    

   يشتغل التضليل على مبدأ التعمية لغرض السيطرة المؤدية لقهر إرادة الوعي والاختيار لدى المتلقي عن غير وعي. والتضليل في الوقت الذي يعمّي على الحقائق فإنه يخلق واقعاً زائفاً أو مفترضاً يريد حمل المتلقي على التفاعل معه خدمة لأهداف الجهة المضلِلَة، وهنا فهو جرم بحق الحقائق الموضوعية كحقائق، وجرم بحق جوهر الإنسان الذي يحول التضليل دون تفعيل قيمه والتزاماته وسياقاته بشكل حر وتلقائي، وجرم بحق التاريخ عندما يخلق التضليل مساراً آخر للتاريخ استناداً الى التفاعل مع الواقع المضلل الذي خلقته عملية التضليل وحملت المضَلَل على التفاعل معه،.. وبهذا يكون التضليل جرم بحق الحقيقة كحقيقة صانعة للتاريخ عندما يتم تحريفها، وجرم بحق جوهر الإنسان الصانع للتاريخ عندما يحول التضليل دون تفاعله الحر الواعي مع الواقع، وجرم بحق التاريخ كتاريخ عندما يصنع التضليل واقعاً تاريخياً غير الذي تصنعه الحقائق قبل التضليل،.. من هنا يكون التضليل عملية تلاعب كبرى ومدنسة هدفها السيطرة والقهر. 
التضليل الشامل
يبدو أنَّ التضليل الإعلامي شامل وبنسب متقدمة، وقد يبدو هذا القول سلبياً وصادماً لأول وهلة، أو ليس هو بالقاعدة ضمن اشتراطات المهنية الإعلامية وأنظمة الضبط القانوني المتبع،.. هذا صحيح، لكن السؤال المركزي: هل هناك أي عمل اعلامي – بشكل عام وليس بشكل مطلق- يشتغل على المعلومة دون أي تأثير وتأثر بالقبليات والقناعات والهويات والثقافات والعقائد؟ وهل يمكن عزل المعلومة المراد ايصالها عن عوالم التوظيف الآيديولوجي والمصالحي وتحييدها عن الزج في أتون صراع الإرادات وأجواء التنافس وحمى المصالح؟ وهل يمكن التفكيك بين الخبر ولغة الجسد مثلاً، بين المعلومة ولغة الإشارة ولغة الأداء ولغة التفاعل ليُنتج لدينا اعلام مهني ذو صدقية عالية يكسب شرف المصداقية؟ صحيح، هناك تضليل اعلامي مكشوف ومباشر يستهدف التشويه والتحريف للحقائق والأحداث تقوم به الدول والمؤسسات ذات المصلحة بالتضليل، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أن تحري المصداقية والصدقية المجردة غاية يصعب تحقيقها، ولهذا تم اعتماد مواثيق الشرف الإعلامي ومنظومات المعايير والعهود والقوانين لضبط الفعل الإعلامي وبالذات تجاه عمليات التضليل التي غدت جوهر العمل الإعلامي وبالذات في الدول المؤدلجة والمؤسسات السياسية والإقتصادية الداخلة في صراع المصالح وذلك حماية للحقائق كحقائق وما يترتب على أساسها من واقع خارجي، وايضاً حماية للمجتمعات والدول والشرائح من أن تقع ضحية التضليل وما ينتج عنه من كوارث سياسية ومجتمعية واقتصادية وأمنية.

المعلومة ضحية
المجتمع اليوم هو مجتمع المعلومة، وبسبب ثورة الاتصالات غدت المعلومة -على تنوعها- مشاعة وبمتناول اليد، فأنت لا تتكلم اليوم عن إذاعة أو تلفزيون مركزي أو صحف محددة منمطة الخطاب والسياسة، إنك تتحدث اليوم عن عالم يصوغه الإعلام من خلال عدد لا يحصى من وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والرقمي والتواصلي، وبمجرد كبسة زر أو لمسة يد أو نطق حرف تأتي المعلومة وتأتي معها المعارف والعلوم والإنجازات والكوارث أيضاً، هذا صحيح فالمجتمع اليوم مجتمع المعلومة، لكن الصحيح أيضاً أنَّ المجتمع هو ضحية المعلومة المضلِلة والتي غالباً ما تكون هي السائدة. إنَّ التلاعب بالمجتمعات وبنية الدول وخلق اتجاهات الرأي المدمرة.. هي احدى أهم نتائج عمليات التضليل الإعلامي الممارس وبالذات من قبل مركزيات السلطة والمال والإعلام والذي لا تسلم منه حتى المجتمعات المتطورة. يؤكد هربرت شيلر في كتابه (المتلاعبون بالعقول): (انه باستثناء قطاع صغير جداً من السكان يحسن الإنتقاء ويعرف ما الذي يشاهده ويستطيع بالتالي أن يستفيد من التدفق الإعلامي الهائل، فإنَّ معظم الأميركيين محصورين أساساً وإن لم يعوا ذلك داخل نطاق مرسوم من الإعلام لا اختيار فيه، فتنوع الآراء في ما يتعلق بالأخبار الخارجية والداخلية أو بالنسبة لشؤون المجتمعات المحلية لا وجود له في المادة الإعلامية، وهو ما ينتج أساساً من التطابق الكامن للمصالح المادية والآيديولوجية لأصحاب الملكية ومن الطابع الإحتكاري لصناعة وسائل الاتصال بوجه عام).
التضليل الإعلامي
هي اشتغال اعلامي منظم ومخطط له وهادف لهدف السيطرة والقهر للمتلقي، فعمليات التضليل الإعلامي ليست اشتغالاً عشوائياً أو غير مقصود، بل هي اشتغال مركّز قصدي وهدفي تعتمده مركزيات المال والسلطة والإعلام كمنهجية شبه ثابتة لتحقيق المصالح، وأيضاً تتبناه الأعم الأغلب من الحكومات والمؤسسات والأحزاب بمستويات متعددة ولأهداف متنوعة، ويكاد يكون عاماً وشاملاً يمارسه الأعم الأغلب من وسائل الإعلام على تنوعها المرئي والمسموع والمقروء والرقمي والتواصلي لتحقيــق المصــــالح،..
 والتضليل الإعلامي وإن كان ليس بجديد على الممارسات الإعلامية لكن الجديد سعة وسطوة الهيمنة الإعلامية بسبب التطور الهائل لوسائل الإعلام والاتصال الذي جعل العالم قرية صغيرة،.. يقول الباحث الفرنسي فرانسوا جيريه في كتابه "قاموس التضليل الإعلامي" أنَّ "التضليل الإعلامي قديم قدم الإعلام نفسه".
ثلاثي الإشتغال
تتم عملية التضليل الإعلامي عن طريق الإشتغال التضليلي المنظم بثلاثي:المعلومة+المتلقي+التأثير، إذ يتم التلاعب بالمعلومة (على تنوعها السياسي والإقتصادي والمجتمعي والأمني..) للتأثير على المتلقي (على تنوع مستويات العمر والوعي والطبقة والإختصاص..) وحمله الى ما يستهدف المضلِل من غايات لتحقيق مصالحه وتنفيذ أجنداته. 
   تدخل الدعاية الموجهة والحرب النفسية وايهامات اللغة وايحاءات الجسد ومؤثرات وسائل الإعلام الحسية كأدوات تلاعب بالكلمة والجملة والصورة والبيانات والإحصائيات
 والإيحاءات والإلقاءات وأوقات ومناخات البث..الخ للهيمنة على المتلقي وجعله مستقبِلاً ليس إلاّ وواقعاً تحت تأثير المضَلِل على اختلاف مستويات الإستقبال والتضليل.

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية