بقلم د. محمد سمير عبد السلام - مصر
تجمع كتابة الشاعرة المصرية زهرة يسري بين إنتاجية الوعي المبدع التصويرية، وتحولات العلامة في تداعيات النص الشعري؛ فالذات تمارس نوعا من التعاطف إزاء الظهور الشعري الفوتوغرافي لليومي، وللهامشي، والتجليات الفريدة للأشياء الصغيرة في النص؛ ومن ثم تتشكل الهوية الجمالية لصوت الأنثى عبر تحولات العلامة بين فضاءات الداخل، والخارج الديناميكية؛ فالوعي الذاتي يتشكل نصيا، والنص يفكك مركزية الذات، ويشير إلى حضورها الشعري في صيرورة علاماته في الوقت نفسه؛ فالحضور العلاماتي في نص زهرة يسري الشعري يؤجل اكتمال بنية الصوت في حالة اللعب، والإحالة إلى لحظات حضور جمالي مؤقت، ومختلف، ويحمل أثر العلامة النصية، أو الغياب في جماليات الواقع الحلمي، أو الواقع اليومي الممزوج ببكارة التشبيهات؛وهو ما يذكرنا باستباق التشبيه للأصل عند بودريار؛ فعلامات العالم تولد بين الحضور الأول الملتبس بالنص، والتأويل الأنثوي الداخلي المنتج بواسطة الوعي؛ فالذات تكشف عن تناقضاتها الإبداعية، وحضورها الجمالي الآخر في تعاطفها مع ذلك النسق التصويري الفوتوغرافي لليومي / الحلمي، ولصور الآخر الذي يبدو كعلامة ذاتية داخلية، تقبل التخييل، والتأويل المستمر؛ فهو يجمع بين التجلي المغاير، والغياب في فضاءات الصورة، وتحولاتها في الذات المتكلمة؛ مثلما تتحد الذات بالوجود المجازي المختلف لليومي، والهامشي.
إن تحولات العلامات في السياق التصويري / التسجيلي في كتابة زهرة يسري، تذكرنا باتساع مدلول الكتابة الأولى عند دريدا، وصيرورة العالم عند نيتشه، والغناء المتجاوز للصمت في فكر إيهاب حسن، ومناقشته للأدب ما بعد الحداثي؛ فالنهايات تبدو مؤجلة، أو تختلط بأغنية اللعب، والتحول، والولادة في نسق تصويري متجدد. وتفاصيل اليومي تختلط بطفرات الحلمي، وبالتسجيل الفوتوغرافي الإنتاجي الذي يستبق الأصل، ويفككه.
ويناقش دريدا إشكالية تحول العلامة، وعلاقتها بالرمز في كتابه "في علم الكتابة"، ويستعرض – في هذا السياق – مواقف سوسير، وهوسرل، وبيرس، ويرى أن الأثر هو نقطة الانطلاق التي تجعل صيرورة العلامة بلا دافع أمرا ممكنا، ويعزز من موقف بيرس في مشروعه للسيميوطيقا، وتأكيده لعدم قابلية تلك الصيرورة للاختزال؛ فالرمز هنا يؤدي دورا مشابها للعلامة، ويغاير فكرة تعارضهما عند سوسير؛ فالرموز تأتي إلى الوجود متطورة عن علامات أخرى؛ وخصوصا من الأيقونات، أو من علامات مختلطة.
(راجع، دريدا، في علم الكتابة، ترجمة وتقديم: أنور مغيث، ومنى طلبة، المشروع القومي للترجمة بالقاهرة، ط2، سنة 2008، ص 126، 127.
إن صور الآخر، والآخرين، والأشياء تحمل أثر المتكلمة، وانطباعاتها الأنثوية، والجمالية في كتابة زهرة يسري؛ ومن ثم تنتقل من الرمز إلى خصوصية النص الإنتاجية، واحتمالاته، ثم إلى التجلي السيميوطيقي المتحول للأثر طبقا لدريدا؛ فالصوت قد يتداخل مع الأشياء في رؤى فوتوغرافية مجازية من جهة، أو في ديناميكية تشبه الشخصيات السينمائية التي يختلط الواقع بالتخييل في بنيتها الاحتمالية من جهة أخرى.
ولا يمكن فصل النزوع إلى الصيرورة هنا عن السرد الشعري عند زهرة يسري؛ إذ تجمع كتابتها الأدبية بين تداخل الأنواع، أو النص الجامع طبقا لتعبير جينيت، وكذلك تأكيد التداخل بين الفنون في المزج بين الكتابة الأدبية، وما تحمله من إنتاجية للوعي، والتصوير بمدلوله التشكيلي، أو السينمائي، وبخاصة في قراءة التفاصيل، وتأويل الأشياء الصغيرة، وطفرات الحلم بصورة تسجيلية تخييلية في آن.
وتبدو هذه الملامح الفنية واضحة في ديوان زهرة يسري المعنون ب "يلزم بعض الوقت"، وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ وأرى أن ديوان الشاعرة يمثل بعض الظواهر التي تميز أدب شعراء التسعينيات في مصر؛ مثل المزج بين الحلم، والواقع، وإعادة اكتشاف اليومي، والهامشي، وتفكيك مركزية المركز، وتأكيد النصية، وانفتاحها على الفضاءات الجمالية، والواقعية في آن، والانتقال من تأكيد الذات المتكلمة إلى تجاوزها في هوية جمالية متحولة، ومحتملة، والنزوع إلى النص المتجاوز لمقولة النوع، وغيرها؛ وهوما يوحي بولوج عوالم ما بعد الحداثية من داخل نسقي الذات، والنص.
تقول الشاعرة في قصيدة "في الذاكرة ليس إلا":
"بخار الطبيخ يختلط مع الشجار، في الذاكرة ليس إلا / ينيرون أضواء الجسر / لتقتحم السيارات غرفتها / تدهس قفص العصافير ... / في ليلة كهذه كان لابد أن تكون معي / لتراهم كما أراهم / يحركون شفتي بكلمات مبهمة / لابد أنهم سيطمئنون / عندما تضع الكمادات على جبهتي / في يوم سأترك هذا البيت / بأطيافه المجنونة / كل شيء على حاله / الأطباق الفارغة في أماكنها على المنضدة / والفوط النظيفة على حافة الكرسي". ص 13، 14.
إن الأشياء تنتقل من وضعها المستقر في اللغة إلى النسق العلاماتي التصويري في وعي المتكلمة من خلال وسيط (الطيف) أو (الشبح)؛ فالشخصيات المجازية الحلمية تأتي في سياق نصي تسجيلي يشبه الفوتوغرافيا، ثم ينتقل إلى الصيرورة السردية النيتشوية بتناقضاتها التي تفكك المستقر، وتقره في آن؛ فكل شيء من الأشياء على حاله في خطاب المتكلمة، بينما تتجلى الشخصيات الفنية كفاعل داخلي في بنية الصوت المتكلم نفسه، وفي الفضاء الحلمي، ويبدو الآخر / الرجل مؤولا بشكل ذاتي نصي في خطاب الأنثى؛ فهو مستقر في الذاكرة، بينما تشارك صورته الأخرى في الواقع الافتراضي في النص، وتداعياته.
وتستعيد المتكلمة حالة من الأداء غير الواعي، تستبق حدود الصوت، وتلج بكارة تشكل الصورة التي تقع وراء التفاصيل الصغيرة، وفي حضورها المكاني الجمالي في النص؛ فالأطباق، والفوط، والكرسي تبدو كعلامات تقع بين الاستقرار المحتمل، والتحول الاستعاري المحتمل أيضا؛ لأن حضورها التسجيلي يحمل دلالات جمالية تشكيلية ممزوجة بالشخصيات الفنية الخفية في الوعي، واللاوعي.
وقد يختلط العادي، واليومي بطفرات متعارضة للعوالم التصويرية ما بعد الحداثية في نص "يلزم بعض الوقت لافتعال ما يحدث"؛ فالآخر / الآخرون يمارسون لعبة جمالية لموت استعاري محتمل، ومؤجل، وتنتقل إشارات النص الرمزية من حدث يومي / ركوب لقطار إلى طفرة مجازية علاماتية للآخرين الحلميين في كادر سينمائي مرعب.
تقول:
"ركاب الخامسة صباحا / ملابسهم مشبعة بالندى/ همهماتهم يصاحبها بخار / لماذا أكرههم الآن؟ / سيدات ملأن سلالهن بالبيض / وعجزة ببعض المناديل والحلوى / صورهم معلقة على جدران غرفتي / كادرات مرعبة لنظراتهم المحترقة / سائق القطار لم يكن يلوح لي / ... في ساعات الفجر يشيرون على نافذتي / يتسللون من فتحات الشيش / بعضهم يخرج من الصور / أصابعهم اللزجة تطبق على رقبتي" ص 20، 21.
إن الواقع بمدلوله الحسي الأول يمارس ثورة جمالية نصية على هامشيته، وحضوره الرتيب؛ فشخصيات بائعات البيض، والعجزة، والسائق، والركاب تمارس عرضا جماليا عبثيا مرعبا ينفصل فيه الآخر عن الأنا، ويتشكل بصورة استعارية مضادة في العالم الداخلي للمتكلمة، ولكن هذا العرض المضاد للبنى الدائرية المتكررة يحمل أثر الموت، وتحول ديونسيوس الأسطوري طبقا لنيتشه، ويؤجله في لعبة الموت الاستعارية نفسها؛ فهو موت سينمائي تشكيلي في غرفة مضادة لرمزية الغرفة الأولى؛ فهي تشبيه للذاكرة التصويرية الإنتاجية للمتكلمة؛ إنها صور بلا إطار، تتحرك بديناميكية تأويلية أنثوية في فضاء الذات الذي يستبدل بعلامة الغرفة التمثيلية في صيرورة النص.
ويجمع النص السابق بين السرد الشعري الكثيف للغة النص في التطور السيميائي لعلامات الآخرين، والهامشيين، وديناميكية اللقطة التي ترتكز على بؤرة الآخر، ووجهه الحلمي في نطاق الكادر السينمائي المرعب في الوعي، واللاوعي؛ ومن ثم تتجاوز الكتابة النصية مقولتي النوع، والبنية الفنية المركزية.
وتستكمل الشاعرة رصد بلاغة الهامشي، وتعاليه النصي في وعي، ولا وعي المتكلمة، وتمزج بين غريزتي الإيروس، والموت طبقا لفرويد في نص "كل هذه التعاسة من أجلك".
تقول:
"قبلني بشغف واترك فمي مفتوحا للكاميرات / فأنا أموت جيدا في منامي / أحلم بحبيبي المنتحر / يعلم أن المطر لا يسعدني حين أكون وحيدة / لذا فتحت صور البوستر للكلاب الضالة تأكل لحمه / مكتفية بأحلامي والأظافر التي صنعتها لأخربش بها ظهور الرجال / ... الفقراء يقطعون الخشب / يصبون في أكوابنا الشاي والقهوة / وحين نرحل يكنسون يقايانا" ص 27.
تحتل المرأة في – في النص السابق – موقع الهامشي الذي يسعى لخصوصية تستبدل الأصل في التطور العلاماتي للقصيدة؛ إنها خصوصية تستعيد صور الميدوزا، وتناهضها، وتذكرنا بتشكل اللغة الشعرية الأنثوية طبقا للناقدة الفرنسية هيلين سيكسو؛ أما الفقراء الهامشيون الذين يكنسون بقايا المتكلمة والآخرين فيشيرون إلى الأخيلة العبثية التي تذكرنا بعوالم بيكيت في نهاية اللعبة؛ وتشير إلى الخيال الهامشي التوليدي في بنى العلامات واستبدالاتها؛ فثمة غياب محتمل دائما يعتري الأصل، والهامش معا.
وفي النص مزج إبداعي بين الإيروس كاحتمال لا يمكن فصله عن الموت؛ فالفم علامة تشير إلى صخب الحياة في القصيدة ، ويشير إلى الالتهام، وصخب الموت أيضا في صيرورة الحياة النصية نفسها.
وقد تعيد القصيدة تشكيل الفراغ بوجود جمالي وفير محتمل، وتعددي بين الفنون؛ فالذات المتكلمة تستبدل الفضاءات الداخلية، والخارجية بنتاج فني يقع ضمن أشياء العالم، وفي تفاصيل الواقع، وتحولها الاستعاري في المكان / أو الفضاء الجمالي في نص "عرائس قطنية"؛ فأشياء العالم تكتسب حياتها الخاصة في آثار وعي الأنثى، وتداخلاته مع علامات الكتب، والأفلام، والقصائد، واللوحات، والتماثيل، والدمى الشبحية، والأطياف المحتملة.
تقول:
"في كل مرة أصوب الكاميرا / قصاصات الشعر تحت زجاج المكتب / وردة حمراء محنطة / تليق بعروة جاكت كلاسيكي / لا شيء آخر سوى كرسي وحيد / في غرفة واسعة ومرآة في السقف / في هذا المكان / أصمم أفلاما أنا بطلتها الوحيدة". ص 30.
ثمة تناوب، أو استبدال علاماتي بين الذات، والحضور الفني للأشياء الصغيرة، والفراغ في تشكيل الفضاء؛ وكأن الأنا، أو عين الكاميرا ترصد حالات من الظهور الطيفي، والغياب في مشهد الغرفة، أو في الفضاء الداخلي الذي يتخذ مظهر المرآة، والفراغ معا.
وقد تعيد الأنثى كتابة الظواهر اليومية انطلاقا من تجليها في الوعي، واللاوعي، وبطولتها في بنية عنوان النص، وعتباته؛ فالشاعرة تمارس نوعا من التجريب في الإعلاء من شاعرية التفاصيل، ورتبتها في العنوان؛ وخاصة في نص "الأكورديون خلفية ناصعة لذكريات قديمة"؛ إذ يتخذ الأكورديون موقع المتن، ويفكك هامشية المرأة الهامشية في القصيدة، ويبدو كعلامة تحمل أثر الحضور الشعري المتعالي المحتمل للمرأة التي تتجلى كظاهرة تتجاوز التحديد، وتقع في فضاء مكاني جمالي بديل عن الشارع من داخله.
تقول:
"لماذا الأكورديون بالذات / يصاحب عجوزا متكئة على حائط / دائما نفس الحائط / أبيض بطبيعة الحال / عجوز تحتضن الأكورديون كأنه رجلها الأخير / هشة جدا / مسكينة جدا / تغني بلهجة محكمة ..." ص 40.
يحمل الأكورديون أثر الذات المدركة، وحضورها الأنثوي؛ فيعيد تمثيل هوية المرأة في الشارع / اللوحة من جهة، ويقوم بتخييل الآخر / الرجل في عالم المرأة الداخلي بصورة توليدية؛ وكأنه وسيط لتحول غنائي، يشبه صوت أورفيوس الآخر طبقا لرؤية إيهاب حسن، ويتجاوز صمت المرأة، وهامشيتها الظاهرة.
وتتداخل العوالم الجزئية دون مركز في صيرورة السرد الشعري، وتقع بين النصي، واليومي، والكوني في نص "ليسوا وحيدين في حجرة الموتى".
تقول:
"النهايات نور / الأرواح كذلك / في هذه اللحظة / تفلح في استدراجي / عندما يتقشر الطلاء الجيري / النقوش وجوه أعرفها جيدا / والحروف بدايات لصغيرة / تستند على السلم / تشاهد تليفزيون الجيران / من فتحة الزجاج المكسور / بعد انقضاء الفيلم / تشعر بانقباض عظام الصدر / وعلامة حمراء أسفل الذقن". ص 102، 103.
ثمة ولادات علاماتية عديدة للأصوات، والنقوش، والصور، والعوالم الجزئية، والكونية في تفاعلها الآلي – الجمالي أمام عين الذات المراقبة؛ وكأن الحياة نسق يجمع بين التناغم، والتعارض، وولادة الافتراضي، والاستعاري من اليومي، والذاتي في الكتابة بمدلولها الواسع عند زهرة يسري؛ فالخطاب في ديوانها "يلزم بعض الوقت" يعزز من شاعرية عملية الرصد، والرؤية التعددية لتحولات الذات، والعالم في تداعيات النص، وتفاعل علاماته الشيئية، والطيفية، والفنية.