إطلالة الناقد عاطف الحناوي على عالم الشاعر الكبير محمود الأزهري
إطلالة عابرة على إبداع الشاعر محمود الأزهري –
رحمه الله
(جرأة التجريب و التتشبث بالجذور )
بقلم : عاطف
عبدالعزيز الحناوي
قال المبدع محمود الأزهري – رحمه الله – في حوار
تليفزيوني معه : "الموهبة هي عطاء من عند الله و هي زرع فطري ولد به
المبدع" و لكأني به كان يعني ما قاله
العقاد شعرا :
الشعر من نفس الرحمن مقتبس و الشاعر الفذ بين الناس رحمنُ
و قد وجه خطابه للمسئولين لضرورة الالتفات لإبداع
الشباب و دعمه و ما ذلك إلا لإيمانه بقدرة الشعر على التغيير و ضرورة استيعاب
قدرات الشباب و كل مبدع جاد و متحقق و توفير فرص النشر لإبداعاتهم .
و إذا اقتبسنا قول الجاحظ عن الشعر بوصفه ضربا من
المجاز و جنسا من الصياغة و التصوير فلنا أن نتساءل ما موضع شاعرنا الأزهري
الأزهريّ و شعره من تلك النظرة البلاغية القديمة؟ و هل هو بمعايير البلاغة الجديدة
على القدر نفسه من الإبداعية؟ و ظني أن البلاغتين تجتمعان أكثر مما تفترقان أو كما
يقول الدكتور عيد بلبع موضحا النموذج السيميائي المقترح عند وليم بليت : أظهر
النسق البلاغي عبر قرون قابلية للاستمرار و مرونة تسمح بالتمادي في تطبيقه على
نصوص جديدة .
انظر إلى قول الشاعر – رحمه الله :
فأخذتها و صحبتها
نبغي اقتطاف العشق من ورد الخميلة
و أجابني عقل تفككَ
أو تفتتَ
حسنت صنائعك التي مارستها
فتعاونوا وسط الظلام إلى الضياء
قد كنت دوما راضيا
أدنى القليل يعفني ....( إلى آخر النص)
فهذا النص لكأني به نص حكائي و حواريّ أو هو قصة
شعرية يتصاعد فيها الحدث الشعري و الصراع مثل القصة القصيرة و ذلك في تماسك ينتج
صورة كلية جيدة تنتج من تآزر الصور الجزئية القائمة على التشبيه و الاستعارات و
غير ذلك و بذلك يتحقق تواشج الفنون بقدر كبير و إن ظلت النزعة الغنائية واضحة و
هذا ليس عيبا فإن القافية و الوزن حجر بناء أساسي في بناء الشعر العربي فلا ينبغي
أن يتخلى الشعر العربي عن واحدة من أهم تقنياته فالإيقاع و القافية ليست مجرد حلية
لفظية و تطريبية بل هي عامل مهم في بناء الدلالة الشعرية.
و لكن محمود الأزهري و في مرحلة امتلك الجرأة على
التجريب و خوض غمار قصيدة النثر هذه الجرأة التي امتلكها شعراء من جنوب مصر و
بلغوا بها ما بلغوه من الإبداع منهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة محمود
المغربي – رحمه الله – و فتحي عبدالسميع و إمبارك القليعي – زادهما الله عطاء - و
غيرهم ، و هذا في حد ذاته تعبير عن جرأة عقل و وجدان الشاعر الراحل محمود الأزهري
فإذا به يخدش الذوق العام في الأزهر الشريف حيث أنه درج – و كل الأزاهرة – و تربى
على عيون الشعر و التراث و من ثم كان محافظا بدرجة كبيرة – أو هكذا كان يُتصور أن
يكون – و لكن الروح الحرة التي بداخله أبت إلا التجريب و الانطلاق انطلاقا لا
يقاطع الجذور و يخاصمها بل ينمو و يتطور متكئا عليها فنجده في العديد من نصوصه النثرية
متأثرا بالقرآن الكريم في لغته و أسلوبه و تعبيراته و من ذلك تعبيره في نص من نصوصه عن ارتداد القلب و هو حسير على
سبيل المثال اقتباسا / تناصا مع قول الله : (ثم ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير )
سورة الملك -4
و انظر إليه في هذا المقطع – من قصيدة "
سبحان " - الذي يقطر جرأة و حزنا و
غضبا و تواصلا إبداعيا مع التراث و الواقع المرير:
تجولنا فى القاهرة كما نشتهى
قلت له : ما هذا يا أخى عزازيل ؟
قال : هذه خمارة لها سبعة أبواب !
مر عليها الملك
تقدس -
حتى تمرغ فى الوحل على يدى ،
ومر عليها الكهنة / كتبة المعلقات /
مبرروا النظرية الجديدة
ولتجدن فيها من جميع الطوائف
مستحمين فى كأس واحدة :
المومسات / أثرياء النفط /
القوادين /
الشعراء المساكين /
وامرأة عفيفة جنى عليها الدهر / الكلاب الملاعين
/
وتجار القطن القدامى المحنطين /
النجمة السداسية المقيمة تحت المنضدة
تنظر فى توجس للفخذين /
ونخلة قديمة هزها النبيون أمامى
فما ضعفت وما استكانت
وما نزلت قطرة واحدة من خمر ،
وبنات المدارس ملتحمات مع أولاد الناس
!
قلت : شوقتنى يا أخى عزازيل
فلندخل
قال : لو دخلت ما ازددت يقينا
هذا مقام لايليق بى
ادخل أنت يا شاكاً فى جلال الحضرة
يا محجوباً بسبب قانون الطوارىء
هذا النص الذي بدأه شاعرنا منضبط الإيقاع و
الموسيقى على وزن الخبب – فعْلنْ - حيث يقول :
لما الساق
التفت
والأوراق التفت
فوق كؤوس الساقي
والأغصان اهتزت
من طرب الأوراق
جن الخد الساكن فى أعماقي
وأعرب عن حالتنا
الثغر الفتان المفتون
ثم انطلق به في انسيابية و سيولة نثرية تذكرنا
بتيار الوعي في القصة و الرواية حيث تنثال الشحنة النفسية على الورقة في شكل كتابة
تستحوذ على الوجدان المتلقي بطزاجتها و توغلها في أحزان و أحلام النفس المبدعة و
أحسبنا لو طبقنا معايير البلاغة القديمة و الجديدة على هذه النصوص و غيرها لوجدنا
أنها نصوص إبداعية تتميز بقدر غير قليل من الجدة و الأصالة و كلمتي هذه هي مجرد
دعوة للمزيد من البحث المدقق و المتعمق في إبداعات محمود الأزهري – رحمه الله – و
مبدعي الصعيد المتميزين – و ما أكثرهم ! و
هم يستحقون الاهتمام و لكن العاصمة تستحوذ بالأضواء و الألقاب و قد آن لهذا الوضع
أن يتغير نحو الأفضل و الأجمل .
عاطف عبدالعزيز الحناوي
شاعر و ناقد أدبي
الإسكندرية
24 سبتمبر 2018
15 محرم 1440 هـ
مصادر :
تسجيل للشاعر الراحل في قناة التنوير و اليوتيوب
مجلة فصول – العدد 101 خريف 2017
الإيقاع في الشعر العربي الحديث – د/ ثائر
العذاري – بغداد 2013
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية