«فركة» نقادة .. حرير يحرس الوطن
أخبار نقادة
«فركة» نقادة .. حرير يحرس الوطن
كان اسمها زمان فى العصر الفرعونى (نوبت) .. أى مدينة الذهب ، ثم جاء الأقباط فاطلقوا عليها « ناى كاد « او (نى كاتي) وتعنى مدينة الفهم والذكاء.. وبعد الفتح العربى صار اسمها نقادة ، تبعد عن قنا جنوبا 31 كيلو مترا ، ومن يزورها يكتشف أنه فى مدينة من الفيسفاء البشرية ارواح سكانها وأهلها متداخلة ومختلطة ، قلوبها تنبض فى توقيت واحد ولا أغالى اذا قلت انك قد تسمع تنهداتها من صدر واحد وقلب واحد .
وأما الملاحظة الاهم فهى تلك البيوت المتداخلة « المعشقة « بالبلدى ودون فذلكة او حذلقة انت لاتستطيع ان تذهب الى بيت اسماعيل المسلم دون ان تمر من عتبة بيت ابراهيم المسيحى ، ولايمكن ان تزور اهل بيت محمد دون ان تمر من بيت المقدس حنا .. يقولون عليها مدينة الفركة ، واحدة من اقدم صناعات النسيج المستلهمة من صناعة الكتان أهم واقدم صناعة فرعونية .. و «الفركة» هى صناعة شال الحرير اليدوى و الذى لايمكن ان تدخل بيتا فى نقادة إلا وعثرت فيه على «نول نسيج» ينتج هذا الشال الحرير ، إلا أن الاغرب ولايمكن أن تمر عليه مرور الكرام إذا ماعرفت أن كل نول من هذه الأنوال المنتشرة فى تلك البيوت المتداخلة هو مملوك لشريكين «مسلم ومسيحى» غالبا تكون بيوتهما متجاورة متلاصقة متداخلة، وربما يكون ذلك شرط المشاركة .. ولذلك قالوا عليها .. فركة الوطن الواحد.. شال الحرير الذى يؤمن رقبة مصر من غدر الحاقدين ، ولم تقتصرعبقرية هذه الصناعة وبيوتها على توحيد المصريين مسيحيين ومسلمين وانما راحت توحد بين المصريين والسوادنيين ، فمثلما كانت هناك فركة مصرية ايضا كانت قديما فركة سودانى ومن ورائها حدث اختلطت انساب وصهر بين عائلات سودانية ومصرية ، ففى شمال الخرطوم عدد من القرى غالبية سكانها سوادنيون من أصول مصرية من قنا واسوان وتحديدا من نقادة واسنا .. هؤلاء ابناء واحفاد لآباء مصريين وسودانيين تشاركوا فى صناعة الفركة السودانى وتصاهروا فانجبوا مصريا سودانيا من فركة واحدة ، ولاتجد بينهم إلا الامنيات بعودتها ورواج تجارتها و الحسرة والندم على اندثارها.
فرنسا تعشقها وفرنسيس لايعرفها
اعرف انك قد تستغرب وربما تغضب اذا علمت ان بلدان اوروبا كلها وعلى رأسها فرنسا تعشق فركة نقادة وتتزين وتتغنى بها بينما هنا فى مصر القليل الذى يعرف هذه الصناعة ، ولو سألت شخصا عنها نادرا ان تجد من يجيبك، بل ربما يعتقد انك تتحدث عن « المفراك « وهو آلة خشبية تستخدمها سيدات الصعيد فى طهى «البامية الويكة» وهى وجبة مشهورة على موائد الصعايدة ..
مازلت اتذكر حكاية للمخرج والناقد والفنان والكاتب الراحل السينمائى يوسف فرنسيس عندما كان فى فرنسا مشاركا ومتابعا لمهرجان سينمائى ، وفى اليوم الأخير عقب ختام المهرجان فكر أن يشترى بعض من الهدايا الباريسية ذات القيمة لزوجته وعائلته واصدقائه .. وراح يقوم بجولة تسويقية فى شوارع الشانزليه لعل وعسى ان يعثر على هداياه المنشودة ، وفجأة وبينما كان واقفا امام فاترينة لمحل انيق معروف عنه بيع الماركات العالمية ولأهل النخبة والاغنياء والأرستقراط وطبقات الاثرياء خطف بصره شال حريمى من الحرير ، فانبهر به وعلى طريقة ارشميدس راح يهلل فى قلب الشارع ويخبر اصدقاءه الفرنسيين لقد وجدتها وجدتها ، هدية احبابى وجدتها شال حرير تحفة ياجماعة .. أصحابه الفرنسيون عندما استشعروا فرحته وكأنه اكتشف كنزا.. انتابتهم الدهشة والحسرة على انه لايعرف حقيقة هذا الشال وهو صناعة مصرية فسألوه:ألا تعرف أن هذا الشال صناعة مصرية؟!.. فنظر إليهم الناقد السينمائى فرنسيس مستغربا وقال : كيف وهل نحن فى مصر نصنع منتجا حريريا بتلك الدقة والمواصفات العالمية والعبقرية المبهرة .. لاداعى للسخرية أظن أن هذا شال فرنساوى أصلى، فمنذ متى ومصر تصنع «الحاجات الجامدة دى» .. ضحك اصدقاؤه الفرنسيون وقالوا :نعم هو مصرى حتى الثمالة بل من جنوب مصر وصعيدها .. واقتربت منه ناقدة سينمائية اسبانية كانت ترافقه جولته وقالت: هذا يطلقون عليه الفركة النقادى نسبة الى مدينة نقادة التى تقع جنوب مدينة قنا بصعيد مصر.. للاسف انتم يامصريين تخطئون فى حق انفسكم وابداعاتكم كثيرا ولاتعرفون امكانياتكم وتفردكم جيدا ، للاسف انتم حتى اللحظة عجزتم عن ان تكتشفوا عبقرية مصر بلدكم .. صمت فرنسيس وكأن صدمة عصبية ألمت به وبدون تردد ألغى فكرة ان يشترى هدايا لاحد ، فقط اشترى شالا واحدا ليكون شاهد عيان على عالمية صناعة الفركة وشهرتها التى حققتها فى أوروبا وحسرتها وعزلتها التى تعيشها فى مسقط رأسها بلادنا وقرر أن اول شىء سيفعله بمجرد عودته الى القاهرة هو زيارة فورية الى نقادة ورؤية حكاية صناعة هذه الفركة على أرض الواقع .. وفعلا وبمجرد وصوله كان أول شىء يفعله هو انه سافر الى نقادة ليكتشف عظمة هذه الصناعة وعبقريتها ، وكيف أن الاجانب يسافرون اليها اميالا لشرائها ويعرفون عنها كل التفاصيل ، كما اكتشف أنها صاحبة معجزات سماوية إذ وحدت بين الاديان والشعوب.. ولم يهدأ إلا بعد ان كتب تحقيقا صحفيا يعد واحدا من أهم التحقيقات الصحفية التى وصفت هذه الصناعة وعبقريتها ..
أم محمد وأم جرجس
.. إنها ليست مجرد حكايات تسطر على الورق أو قصص لإثارة المشاعر ، بل هى حقائق وأفعال موجودة فى كل خيط تراه فى تلك الصناعة، تحتاج كل منها لصفحات لسردها وعرض تفاصيلها ، فالعلاقة المسيحية الاسلامية التى خلفتها هذه الصناعة هنا فطرية ، أصولها متجذرة من مئات السنين ، تشعر بها أثناء مرورك فى شوارع المدينة حيث لا فرق بين مسلم أو مسيحى ، علاقة لم تلوثها الفتن أو المشاكل التى تحدث فى أى مكان ، لأن أهلها إما مسلمين أو أقباط لم يتركوا أذانهم واصابعهم إلا لصوت الغزل ونغم الحرير وهو يغنى على النول حب الوطن شال ملفوف على رقبة العشاق.
لايمكن ان تتعمق فى معانى هذه الخيوط ونسيجها دون أن تغزل مشاعرك صورة خاصة لديك عن مصر التى عرفتها من قصص المستشرقين والمبدعين وافلام زمن يحيى حقى ونجيب محفوظ ، كانت الفركة سبباً فى بقائه واستمراره
مشاهد طبيعية تراها وأنت تعبر طرقات المدينة تسمع أم محمد تنادى يا أم جرجس ابعتى رغيف عيش مع هانى ، ومشهد آخر لمايكل ينادى على حسن يذكره بميعاد الليلة لزيارة عادل المريض .
ومدينة نقادة يسكنها عدد كبيرمن الأقباط وأغلبهم على مذهب الأرثوذكس بجانب إخوتهم المسلمين، وبها خمس كنائس منها كنيسة للبروتستانت وأخرى للكاثوليك وثلاث أخرى للأرثوذكس وهى :(كنيسة العذرا وكنيسة مارى جرجس وكنيسة الشهيدة دميانة) بخلاف عدد ما يزيد على ستة أديرة منتشرة بصحراء نقادة ومنها: (دير القديس اندراوس أبو الليف غرب نقادة -دير الصليب والأنبا شنودة غرب نقادة-دير مارجرجس ( المجمع) غرب نقادة -دير الملاك بقامولا بنقادة - دير الأنبا بسنتاؤس غرب نقادة -كنيسة أبو سيفين بصوص جنوب نقادة - دير الشهيد مارى بقطر).
ويشارك المسلمون جيرانهم المسيحيين فى المناسبات فى أعيادهم وموالدهم ومآتمهم منذ زمن طويل كما يندمجون فى أعمالهم بالمصالح الحكومية والأسواق ومن الطرائف التى لا تتكرر فى مكان آخر أنه هناك مهن تخصص فيها الأقباط مثل النجارة والتنجيد وأعمال الصاغة»المجوهرات» والحياكة ولكل عائلة مسلمة فى قرى نقادة نجارها وخياطها وصائغها المفضل ،وكذلك المسلمون الذين يحترفون مهن الزراعة وأعمال البناء وغيرها ..كما يعمل عدد كبير من الأقباط بالتجارة وأغلبهم تجار جملة ،وقد اشتهر بعضهم فى الأسواق الأفريقية بتصدير ملايات ( الفركة)التى اشتهرت بها نقادة وقراها منذ القدم والتى كان يصنعها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب داخل الأنوال اليدوية فى المدينة وقراها ولاتزال الحرفة قائمة ولكنها على نطاق محدود بخلاف عصرها الذهبي.
ونقادة لايمكن أن تراها إلا بيتا واحدا وأخوة فى الأفراح والعزاء ، فلا يمكن أن يتخلى أى فرد عن مشاركة جيرانه فى مناسباتهم المختلفة ، وفى آخر مرة ذهبت اليها راح بعضهم يذكرنى بقصة ذلك المسيحى الذى توفى سنة 1968وأثناء تشييع الجنازة والسيارات مستعدة لحمل الجثمان إلى المقابر التى تبعد حوالى 3 كيلومترات عن بيوت المدينة إلا أن المسلمين رفضوا السيارات وأصروا على حمل الجنازة على الأكتاف ، وموقف آخر حدث بعد نهاية حرب أكتوبر المجيدة عندما عاد أحد أبناء المسلمين من جبهة القتال بالسلامة ورغم فرحة أهله بسلامة عودته، إلا انهم رفضو إقامة أى احتفال حتى يعود جارهم المقاتل المسيحى ، فقد اخبرنا شقيقه عطالله جابر العلاقة بيننا يشعر بها أى شخص يأتى لمدينتنا فلا يمكن لاى شخص أن يعرف الفرق بين المسلمين والاقباط هنا لأننا عبارة عن أسر متماسكة ، وأتمنى أن تصبح مصر كلها مثل مدينتنا فى التعامل والتعاون .
نعم هو واقع فهنا لا يمكنك معرفة المسلم من المسيحى فالبيوت متشابهة ليس فى المنظر فقط بل فى كل شىء حتى نوعية الملابس أو الطعام ، إلا بعض المنازل التى تزين واجهتها برمز الصليب ، كما أن الاسر النقادية هنا تؤجل أفراحها ومناسباتها المختلفة فى حالة حدوث مكروه لدى الطرف الثانى من جيرانهم، وقد تندهش عندما تعرف أن أشهر متخصصين فى الرسم على بيوت الحجاج المسلمين بنقادة مدرس مسيحى يدعى عاطف زكى مدرس بثانوية نقادة، وله علاقة بجميع الأسر.
ويحكى احد الشباب المسلم عن علاقته بالمقدسة تريزا كأم له، وكيف كانت الثقة كبيرة بينهما حيث يعتبرها مثل والدته، فيكفى انها كانت تأتمنه على أموالها ، وكان هو المتصرف الوحيد فى أموالها ونفقاتها ، حتى أنها عندما أجرت عملية باحدى عينيها كان ذلك الشاب هو من تولى عملية علاجها من البداية حتى إتمام العملية إلى أن توفيت إلى رحمة الله تعالى وأنا معها لم أتركها .
مازال الشباب فى نقادة يذكرون اقوال السيدة تريزا حنا ... العلاقة بين المسلمين والاقباط يا ابنى مش كلام يتكتب على الورق ولا كلام يتقال وخلاص ، لا دى حقيقة فعلية موجودة بيننا من زمان ، احنا اتولدنا لقينا نفسنا متربيين مع بعض نأكل ونشرب مع بعض نفرح ونحزن مع بعض، والدليل على ذلك أن بيوت نقادة لا تعرف التباعد أو الانعزال ، فالبيوت النقادية ملتصقة ببعضها البعض لا تجد مثلاً شارعا خاص بالأقباط وآخر خاص بالمسلمين فالبيوت متلاحمة ومتشابكة وكل عمارة بها مسلمون ومسيحيون لا فرق بين هذا وذاك.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية