05‏/04‏/2017

رصاص فارغ القصة الفائزة في مسابقة قصص على الهواء لـ أحمد أبودياب

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏لحية‏‏‏

( رَصاصٌ فارِغٌ ) 
                             أحمدأبودياب 

« عَثَرْتُ عَلَى وَاحِدَةٍ أُخْرَى، حَتْمًا هُناكَ الْكَثِيرُ مِنْهَا هُنَا ».
صَرَخَ الطِّفْلُ مِنْ مَوْضِعِه، فِي وَجْدٍ، وهو يُشِيرُ لِصَدِيقَيْهِ أَنْ يَقْتَرِبَا، بَيْنَما يَتَحَسَّسُ بِيدَيْهِ رَصاصَةً فارِغَةً.
فَتَقَدَّمَ الطِّفْلانُ إلى حَيْثُ يَقِفُ ثالِثهما مُتَلفِّتَينِ مِنْ حَوْلِهِما مُدَقِّقَيْنِ في الَأرْضِ، رَاجِييّنِ أَنْ يَتَمَتَّعا بِمِقْدارِ حَظِّهِ أَوْ أَكْثَر قَليلًا
كانت الرَّصاصَةُ تَلْمَعُ تَحْتَ ما تَبَقّى مِنَ الشَّمْسِ بَعْدَ أَنْ انْقَضى مِنَ النَّهارِ رَدَحٌ ، وَكَأنَّها بِلَمَعانِها تَتَبَسَّمُ في رِضا، بَعْدَما أَلْقَتْ ما كانَ بِها إلى جَسَدٍ ما واسْتَلَبَتْ مَكانَه فَوْق الأَرْضِ، والْوَلَدُ لاهٍ يُطَوِّحُ بِها في الْهَواءِ، ثُمَّ يَحْتَضِنُها بِكِلْتا يَدَيِّهِ عِنْدَما تَحُطُّ عَلَيْهِما.
رُبَما لَمْ تَحُط بِفِعْلِ الجاذِبِيَّةِ فِعْلًا، وَلَكِنَّها حَطَّتْ بِفِعْلِ رَمْيَةٍ غَاضِبَةٍ مِنَ مَلاكٍ؛ أَذْعَنَ لِأَمْرٍ سَماوِيٍّ ألَّا تُدَنَّس السَّماءُ بَرَصاصٍ فَتَلَقَّفَها وَرَدَّها لِأَسْفَلِ ثَانِيَة.
اِلْتَفُّوا وَشَكَّلَ ثَلاثَتُهُم دَائِرةَ بَحْثٍ وظَلُّوا يَجْمَعون كُلَّ ما يَقَع تَحْت أَيْديهم مِنْ فَوارِغٍ.
إنَّهُ لَمِنْ دَوَاعي الْعَجَبِ أْنَّ تِلْكَ الْقِطْعَةَ الْمَعْدَنيَّةَ ضَئيلَةُ الحجمِ؛ لُعْبَةٌ لِلْكِبارِ وللصِّغارِ.
« كَمْ واحِدة تَنْقُصُ لِنُكْمِلَ بِنَاءَ البَيْتِ الذَّهَبي »؟
تَلَفَّتَ الطِّفْلُ الثَّالِثُ نَحو صَديقَيْهِ مُتَسائِلًا بِجِدِّيَةٍ، فَأَجَابَهُ الأوَّلُ: « اليَوْم قَدْ جَمَعْنا عَددًا لا بَأسَ بِهِ »، ثُمَّ أَضافَ: « وَرُبَّما اسْتَطَعْنا إِكْمَالَه عِنْدَ نهايَةِ اليَوْمِ، لو وَجَدْنا كِمِّيَةً إِضَافِيَّةً بالقُرْبِ مِنْ مُعَسْكَرِ تَدْريبِ الجُنُودِ، المَوْجود بَيْن بَلْدَتِنا والبَلْدَةِ المُجَاوِرَةِ ».
ليَتْبَعَهُ الطِّفْلُ الثَّاني صائِحًا: « إِذًا فَلْنَنْتَهِ مِنه قَبْل الغَدْ ».
اِبْتَهَجوا جَميعًا رغمَ هَذا الجَهْدِ الإضافي لأنَّهُ سَيُقَرِّبهم مِمّا يَبْتَغون، وانْطَلَقوا نَحو مُعَسْكَرِ التْدَريِبِ؛ كَرَصاصٍ يَبْحَثُ عَنْ رَصاصٍ.
الأطْفَالُ في تِلْكَ البَلْدةِ لَهُم مِنَ الأحْوالِ ما يَتَنَدَّرُ بِهِ الحَكْاؤون، فَهُم فُطِموا عَلى النِّيرانِ ومَناظِر القَتْلى وصَرَخاتِ الجَرْحى؛ أَلِفُوا - جَرَّاء الحَرْبِ -  مُعاشَرَةَ الرَّصاصِ واعْتادُوه مَسْموعًا ومَرْئِيًّا آناءَ اللَّيْلِ وأَطْرافَ النَّهارِ، بعد أن تَذوَّقوا الفَقْدَ مِرارًا لَمْ يَعُدْ طَعْمُهُ مُرًّا، لِذا يَقْضون عَلى أَوْقاتِهم المُمِلَّةِ، يَقْتُلونَها بالرصاصاتِ الفارِغَةِ، يَجْمَعونَها بَعَد كُلِّ إِطْلاقِ نَارٍ يُدَاهِمُ بَلْدَتَهُم، ثُمَّ يَلْعَبون بِها ( السِّيجَةَ ) أو ( الشِّيزَةَ ) كَما يُسَمِّيها بَعْضُهُم، وهيَ لُعْبَةٌ قَريبَةٌ لِلْشَطَرَنْجِ.
وهُناكَ صِغارٌ آخَرون يَلْتَقِطون الطَّلَقات الفارِغَةَ، ليَبيعوها لِتُجَّارِ المَعادِنِ قَصْدَ التَّرَبُّحِ.
آه مِنْها الظُّروف، تِلْكَ التي تُشْعِلُ الظَّروفَ فَتَحِل مِنْ بَعْدها الصُّروفُ، ليتوارى وَراءَها مِنْ غَيْرِ المَرْغوبِين ضُيوف.
الثَّلاثَةُ كانوا يَجْمَعون الطَّلقات الفارِغَةَ ليبْتَنوا بِها بَيْتًا صَغِيرًا في نُدْحَةٍ غَيْر مَأْهولَةٍ، بِالقُرْبِ مِنْ الجِهَةِ الغَرْبيَّةِ للبَلْدَةِ، فَهُم مُنْذُ تَعَرَّفوا الرَّصاصَ عِيَانًا، وبِخَيالِهم الطُّفولي البَريء البارِعِ، تَصَوَّروا أَنَّ الطَّلَقات مِنَ الذَّهَبِ لِلَوْنِها الَّذي يَميلُ لِلْاصْفِرارِ، فَأضْمَروا النِيَّةَ عَلى أَنْ يَكُونَ لَهُم مِنْها بَيْتٌ صَغيرٌ، أَطْلَقُوا عَليْهِ مَجَازًا ( البَيْت الذَّهَبي )، وتَعاهَدوا عَلى ألَّا يَكْشِفوا عَمَّا تُخْفي سَرائِرُهم إلاَّ بَعْد أَنْ يَتِمَّ المُرادُ ويَمْلأ الفَراغَ البَيْتُ، في المَنْطِقَةِ الَّتي اخْتَاروها بَعيدًا عَنْ أَعْيُنِ الأطْفالِ المُتَطَفِّلين والكِبارِ الآمِرينَ النَّاهين.
تَوَغَّلوا في الطَّريِقِ الواصِلِ ما بَيْن البَلْدَتَيْنِ، مُسْتَبِقين الوقْت، قَبْلَ أَنْ يَنْسَكِبَ الظَّلامُ بِأَكْمَلِه فوقَ رؤوسِهم.
ومَشوا حَسب خُطَّةٍ مُعَيَّنَةٍ تَضْمَنُ لَهُم السَّلامَةَ، فَهُم يَعْلَمون أَنَّ الجُنودَ يَقْضون نَوْبات حِراسةٍ مُنْتَظِمَة، وكَثيرًا ما سَمعوا أصْواتَهم واشْتَمُّوا رَوَائِحَهم، تَارة أَثْناء الخدْمَةِ والدُّرْبَةِ عَلى التَّصْويبِ، وأُخْرى وَقت الرَّاحةِ واللَّهْوِ والسَّمَرِ، بَيْدَ أَنَّ الرَّياحَ كانت تَسيرُ مَعَهم، فَلَم يَتَسَنَّ لَهُم أَنْ يَسْمَعوا أَيَّةَ أَصْواتٍ آَتِيَة مِنْ ناحيةِ المُعَسْكَر، ولا أماكِن المُراقَبَةِ المُتَناثِرة حَوْل مَدَاخِلِه.
لَمّا وصَلوا عِنْد بِدَايَةِ الطَّريقِ إِلى أَسْوارِ المُعَسْكَر، تَوخّوا الحَذَرَ فَسَرَوا بِخَفّةٍ، مُتَوَجِّسينَ أَنْ يَراهم أَحَدُ المُجَنَّدين.
إلى الحَدِّ الَّذي يَمْنَعُ عَنْهُم بَطْشَ الجُنودِ تَقَدَّموا، وبَحَثوا في كُلِّ الأرَضِ مِنْ تَحْتِهم، لَكِنَّهم لَمْ يَجِدوا شَيْئًا فَقَرَّروا العَوْدَةَ مِنْ حَيِثِ أَتوا، تَصْحَبُهم النَّدامةُ، فالبَيْت الذَّهَبي لَنْ يَكْتَمِلَ في يَومِهِ هَذا.
حَلَّ الظَّلامُ عَلى الأطْفالِ، في طَريقِ عَوْدَتِهم، واسْتَحالتِ التَّفاصيلُ خَيالاتٍ ، لَمْ يَتَبَيَّنوا جَيدًا أَنَّ هُناكَ مَنْ هو قَادِمٌ ناحيتهم بِخُطى خَفيفَةٍ مُدَرَّبَةٍ ومُتَرَقِّبَةٍ، إَذْ وصَلوا مَدْخَلَ البَلْدَةِ فَبَرَزَ لَهُم مَنْ تَحْتِ الأرْضِ جِنِيَّان عَلى هَيْئَةِ جُنْديَيْنِ، لابُدَ أَنَّهُما مِن الدَّوْريِّةِ اللَّيْليِّةِ المُتَحَرِّكَة الَّتي تُمَشِّطُ المَنْطِقَةَ حَوْل مُعَسْكَرِ التَّدْرِيبِ قَبْل تَبْديلِ نَوْبَةِ الحِراسِةِ.
« ماذا تَفْعَلون هُنا »؟
تَوَقَّفوا تَمامًا عَنِ السِّيرِ والذُّعْرُ يَتَقاذَفهم، وانْتابَتهم الظُّنونُ مِمَّا قَدْ يَؤولُ إِلَيْهِ مَصيرُهم، والجُنْديَّان قَدْ أَشْهَرا أَسْلِحَتَهما في وجوهِهم.
لَمْ يَقْو أَحَدٌ مِنَ الأطْفالِ عَلى الرَّدِ ولَفَّهُم الصَّمْتُ المَشُوب بِالقَلَقِ
فَكَرَّرَ الجُنْديُّ سؤالَه بِحِدَّةٍ أَعْلى وزاد عَليه أَنْ قال:
« ما أَسْماؤكُم ومِنْ أَيْنَ أَتَيْتُم ؟ وماذا كُنْتُم تَفْعلون ناحية المُعَسْكَرِ ؟ ليَنْطِقَ أَحَدُكُم قَبَلَ أَنْ أُرْديكُم قَتْلى ».
تَخَلَّى الطِّفْلُ عَنْ خَوْفِهِ وأَجابَ الجُنْدي بِشُحْنَةٍ مُؤقّتَةٍ مِنَ الشَّجاعَةِ: « أَسْماؤنا لا تَهُم، أما مِنْ أَيْنَ أَتَيْنا فَنَحْنُ مِنْ هَذِه البَلْدةِ القَريبَةِ »، وأَشار بيدِه.
تَقَدَّم إليهم الجُنديُّ الآخَر وقام بتَفْتيشهم، فَوَجد في جِيوبهم كَمًّا مِنَ الرصاصاتِ الفارِغَةِ، مَسَكَ بَعَدَدٍ مِنْها وسَألَهم بِغَضَبٍ: « ماذا تَفْعَلون بِها؟ ومِنْ أَيْنَ أَتَيْتُم بِها »؟
أَجَابَه الطِّفْلُ دُون تُرَدُّدٍ: « نَحْنُ نَجْمَعُها مِنْ أَوَّلِ النَّهارِ مِنْ مَناطِق مُتَفَرِّقَة في بَلْدَتِنا أَوْ أَيْنَما نَجِدُها، ونَسْتَعْمِلها  في التَسْليةِ ».
بانَ الامْتِعاضُ على وَجْه الجُندي وكَأنَّه لَمْ يُصدِّق ما سَمعه مِن الطِّفْلِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلى زَميلِه مُنْتَظرًا مِنْهُ إِشارَةٍ ما بِأَنْ يَتَّخِذَ أَي إِجْراءٍ ضِدَّهم، لَكِّنَ زَمِيلَه أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ أَنْ دَعْهم يَمُرُّون بِسَلامٍ فَفَهِم أَنْ لَيِسَ هُناكَ خُوْفٌ مِنْهُم أَوْ مِمَّا يَفْعَلون.
أَعادَ إِلَيْهم الظُّروفَ وقَالَ بِلَهْجَةٍ مُشَدِّدَةٍ: « لا تَعودُوا هُنا ثانِيَةً وإلَّا تَعَرَّضْتُم لِلاعْتِقالِ أَوْ الرَّمْي بالرَّصاصِ ».
تَقَبّلَ الأطفَالُ كَلامَه دون تَعْليقٍ، أَخَذوا حَاجَتِهم، ومَضوا بلا كَلِماتٍ إضَافَّيةٍ، اسْتَداروا وتَوَجَّهوا نَاحيةَ البَلْدَةِ، والجُنْدِّيانِ في مَكانِهما يَرْقُبَان مَشْيَتَهُم، وبَعْد أَنْ ابْتَعَدوا بِأَمْتارٍ قَليلَةٍ قالَ أَحَدُهُم للآخَرِ: « ما مَدَى قُدْراتِكَ في اصْطيادِ الأهْدافِ المُتَحَرِّكَةِ في الظَّلامِ »؟
فَردَّ بِزَهْوٍ: « بُنْدُقِيَّتي كَفيلَةٌ بِالرَّدِ، ولِنَرَى مَنْ مِنَّا الأَكْفَأ ».
صَوَّبَ الاثنان، فَتَحَرَّرَ المَوْتُ السَّاكِن أَفْواه البُنْدُقِيَّتَيْن، انْتَقَلَ سَريعًا ودَقيقًا إلِى طِفْلَيْنِ واسْتَقَرَّ في جَسَديْهِما، الطِّفْلُ الثَّالِثُ أَلْجَمَتْهُ الحادِثَةُ فَلَمْ يَعِ ما حَدَثَ، إَلَّا وصَديقاه قَدْ أَصابَتْهُما الطَّلَقاتُ الكَثيرَةُ المُتَتالِيَةُ، فَتَساقَطا كَأَفْراخِ الحَمامِ الصَّغيرَةِ حينَما تُباغِتُها طَلَقاتُ الصَّيادِ ، وهو يَنْظُرُ إِليهما مَذْهولًا تَرِحًا، والجُنْديَّانِ يَقْتَرِبان مِنْ مَكانِه لِيَرَيا ما عَمِلتْ يَداهُما وما حَصَدَتْهُ بُنْدُقِيَّةُ كُلِّ مِنْهُما، لِيَجِداهُ قَدْ زاغَ بَصَرَهُ وتَهَدَّجَتْ أَنْفاسُهُ، كَأَنَّهُ سَيَلْحَق بِهِما.
قالَ جُنْدِّيٌ مِنْهما لِلْآخَر بِصَوتٍ يَعِجُّ بِالثِّقَةِ: « لَمْ نُخْطِئ الأهْدافَ يا عَزيزي، المَجْدُ لَنا ».
ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلى الطِّفْلِ بِكَلامِهِ واسْتَطْردَ بِلَهْجَةٍ ساخِرةِ: « أَظُنُّكَ كُنْتَ تَبْحَثَ مُنْذُ قَليلٍ عَنْ رَصاصاتٍ فارِغَةٍ ».
تَوَقَّفَ الوَلَدُ دَقائِق يُحَمْلِقُ في هَدْأَةٍ نَحْوَ جُثَّتَيْ الطِّفْلَيْنِ، ثُمَّ انْتَظَرَ إِلى أَنْ غَابَ الجُنْديَّانِ عَنْ مَرْأى العَيْنِ، فَأَخَذَ في الِتِقاطِ الظُّروفِ مِنْ الأرْضِ بَيَدٍ، واليَد الأُخْرى كان يُكَفْكِفُ بِها دُموعَه، ثُمَّ مَضى، بَعْد ذَلِكَ، يَشُقُّ الظَّلامَ جارِيًا، هو ودُموعِهِ  .

التسميات: ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية