17‏/08‏/2017

محنة أرملة


يقال : أرمل فلان ، إذا نفد زاده وافتقر ، وأرملت المرأة : إذا مات عنها زوجها ، والعلاقة بين نفاد الزاد والافتقار ، والترمل وثيقة فإن الأرملة تفقد كل شيء في لحظة واحد (الزوج)
 
الحبيب والأنيس ورفيق العمر وشقيق الروح الذي يشبع حاجاتها العاطفية·
السندالمادي ، حيث إن الزوج كان ينفق على الأسرة ، وهي الآن لا تدري ماذا سيكون في غدٍ ، وهل ستحتاج هي وأولادها إلى هذا وذاك ؟ وتمد يدها للسؤال ؟ وتحرم وأولادها مما اعتادوا عليه من حياة طيبة؟
السعادة والهدوء والسكينة وراحة النفس وشريك الحياة ، فتلقى المسؤولية كلها على عاتقها : إنها الآن الأم والأب معاً·
تفقد أيضاً لقب (الزوجة) ، وتصير(الأرملة) ، وعليها أن تتكيف مع هذا ، وأن تعيش وحيدة بلا رجل ، تفقد كذلك الإحساس بالاستقرار والأمان والتقبل لذاتها ، والإحساس بأنها نصف في زواج ثنائي متلاحم ، وتمسي على إحساس بأنها نصف مبتور انتزع من كل ، إنه نصف لا معنى لوجوده من دون نصفه الآخر الذي رحل·
 
صدمة الترمل ..
المرأة مخلوق ضعيف رقيق حساس ، لذلك قرنها النبي – صلى الله عليه وسلم – باليتيم في الوصية بهما فقال : (اللهم إني أحرج حق الضعيفين : اليتيم والمرأة) ، ومن هنا يكون وقع موت زوجها وترملها صدمة ساحقة لها ، تحس عندها أن عقلها شُلَّ وتوقف عن التفكير لهول مصابها ، لا يستطيع تفكيرها أن يتقدم أو يتأخر ، فالعقل مجهد ، والنفس لاغبة ، والأحزان تأخذ بأقطار نفسها فتكون كتلة مكثفة من الحزن الأسود القاتم ، وهذه الأحزان تتجدد وتستمر شهوراً وربما سنوات·

إنها تجربة مؤلمة فوق طاقة العقل على التحمل ، توشك الأرملة فيها على فقد صوابها وضياع رشدها ، ذلك لأنها تنتظر ، ما تعلم يقينا أنه لن يأتي أبداً ، وتريد أن تُرجع ما لا يرجع ، فالزمان لايعود إلى الوراء أبداً ، والأموات لا يقومون من أجداثهم·
 
إن المرأة التي تفقد شريك حياتها تواجه موقفاً خطيراً وغريباً بتأثيراته عليها وعلى من حولها إذا لم تستعد له وتفهم ما ستواجهه ، فهو انقلاب لحالها رأساً على عقب ، وقد صدق أحد المعالجين النفسيين حين صوره بزلزال خطير يهدم سقف حياة الأرملة ، وبركان فظيع يحرق جدران أمنها ، وفيضان هائج يكتسح سدود حمايتها ، وإعصار أهوج يطيح بكل ماهو ثابت وراسخ على سنوات عمرها ·· إنه زلزلة خطيرة للنفس قد تطيح بالعقل ، لولا صبر يلهمه الله تعالى.

ليل طويل أسود ..
يلازم الأرملة إحساس دائم مرير بالفقد ، وكذلك يشعر أولادها لفقد أبيهم ولكن إحساسها يكون مركباً متراكباً من الحزن والأسى والحرمان والوحدة ، وهو إحساس يختلف عن إحساس المطلقة ، فالمطلقة تشعر بمرارة الفشل في كل لحظة ، ولكنها تنتظر عسى أن يرجعها مطلقها ، أو تتزوج بآخر ، أما الأرملة فتعيش بلا أمل ، فلا يمكن للميت أن يعود ، وكلما كان حبها لزوجها الراحل كبيراً ، كان أثر الفقد قاسياً ومستمراً لزمن طويل ، وقد يستمر مدى الحياة ، وبعض النساء يمتن فعلا بعد موت شريك الحياة ، وبعضهم يصبن باكتئاب لا يشفين منه أبداً ، وقليل منهن يتزوجن ، والأكثر يعشن لأولادهن ، ويرفضن الزواج مرة أخرى وفي أمثالنا الدارجة يقولون عن كل أمر محزن مقبض عسير إنه : (أسود من ليل الأرملة) ، وما أصدقه مثلا ! فليل الأرملة أسود طويل ، لأن فيه الوحدة بعد الأنيس ، والبرودة بعد الدفء ، والشقاء بعد السعادة ، والهموم بعد الفرح ، ساعات الليل الطويلة تعيشها الأرملة لحظة لحظة تجتر ذكريات الماضي الطيبة ، وتتحسر على كل شيء جميل مضى ولن يعود·

وتدرك الأرملة أن سعادتها انتهت وماتت وقبرت مع زوجها ، ولا أمل في أوبة ، وليس لها إلا كهف الذكريات تحبس نفسها فيه ، وتعيش على الماضي ، بلا تطلع إلى المستقبل ، فالأموات لا يعودون إلى الحياة ثانية ، وهي دفنت شبابها مع زوجها ، وصارت في الحياة شطر إنسان فمع من تتحدث الآن ؟ ومن سيرد عليها ؟ إنها تكلم نفسها ، وترد على نفسها ، تسأل وتجيب كمن فقد عقله ، وهي فقدت رجلها فليس عجيباً أن تفقد رصانتها وتوازنها النفسي!

وتكتنف الأرملة هواجس وأوهام ، فهي تحس دائما كأن روح زوجها الراحل تطوف حولها ، وإذا لمست شيئا من أشيائه ، أو رأت ولدا من أولادهما ، تشعر كأنه مات من لحظتها ، وتستعبر باكية ، نعشه محمولاً ليذهب بلا رجعة ، وهي ترتجف من الألم ، وتلبس السواد ، وتجلل نفسها وحياتها كلها بالقتامة ، يعمها الحزن وإحساس الفقد ، وتحس بأن نصفها ذهب ، بل كلها مضى ولن يعود ، فهي إذن لم تعد موجودة في الحياة ، وقد تشعر بأنها ماتت موتا معنوياً ، وحرمت من كل سعادة في الدنيا ، لا لمسة حانية ، ولا كلمة حلوة ، ولا همسة رقيقة ، ولا أنيس يدفئ لياليها ، ويذهب عنها برودة ليالي الشتاء الطويل ، ووحدة ليالي الصيف المسهد·

هذه قصة امرأة ذهبت إلى طبيب تشكو من اضطراب معوي وقيء مستمر ، فنصحها الطبيب بأن ترتاح في السرير وتناول السوائل والامتناع عن الأكل ، ولكن الحال اشتدت بها ، فلجأت إلى العلاج النفسي ، واتضح أنها أرملة ، مات زوجها منذ ثلاث سنوات ، وكانت هي تعيش في حرمان معه لتمرضه ، وهي الآن في الثالثة والخمسين ، وقد قضت معه عشر سنوات عجاف لا يتخللها سعادة بسبب مرضه وضعفه ، فكانت حياتها تذبل ببطء ، وقد آلمها أن تضيع شبابها سدى ، وينطفى المصباح سريعا على حين كانت جميلة جذابة·
الأرملة وإعادة التوازن النفسي ..
تمر الأرملة في أحزانها وأساها بمراحل هي :
 
1] :    بعد الصدمة الأولى بفقد الزوج تشعر الأرملة بشلل عقلي يستمر أياماً عدة ، ثم يأتي بعده حزن شديد يستمر لشهر ونصف الشهر تقريبا ، لا تعرف الأرملة فيه طعم الأكل ولا النوم ولا انتظام الحياة ، ولا ترغب في الحركة ولا الكلام ولا التفكير ولا مشاركة الناس حياتهم ، إنها مرحلة فقد التوازن·
 
2] :    في المرحلة الثانية تهدأ الأحزان شيئاً فشيئاً ، وتتهيأ الأرملة للعناية بأولادها ، وربما تخرج من البيت لزيارة أهلها ، ويبدأ اهتمامها بطعامها وشرابها وأولادها إنها لا تزال تتحرك كالمخدرة لا تعرف الابتسام فضلاً عن الضحك ، وتفقد روحها المرح وتزول عنها بهجة الحياة ومعناها ، وتتشبث بكل تذكارات الراحل وذكرياتها معه ، وتحس بوجوده معها ، وتعاهده في نفسها على الحزن عليه أبداً إذا كان زوجها في حياته مخلصا لها ومحباً·
 
3] :    بعد فترة الحداد تستطيع الأرملة أن تعود لأسلوب حياتها العادي : تدير بيتها ، وتقوم بأعمالها ، وتعتني بأولادها ، ولكن تحت القناع الجامد نار الحب تلتهب ، ولمجرد تذكر صغير قد تعود لها أحزانها كلها دفعة واحدة وتنهمر دموعها سخية·
 
تعود للأرملة الابتسامة وتضحك أحياناً ، وتستطيع أن تشارك الناس ، وينتظم أكلها ونومها ، ولكنها لا تنفك تشعر بالفقد ، وفي هذه المرحلة تنجح في تفهم وضعها الجديد وتقبله ، إنها لم تعد زوجة ، يشاركها زوج حياتها ، هي نصف فقط مشطور بعد ان كانت مع زوجها تمثل واحداصحيحاً متلاحماً  ، وعليها أن تشق طريقها في الحياة وحدها ولا تستطيع الأرملة استعادة توازنها النفسي بسرعة ، فقد يستمر ذلك زمنا طويلا حتى تدرك بوعي كامل أنه مات ، وانها أمست وحيدة ، ونحو 85 في المئة من الأرامل يعدن إلى الحياة الطبيعية من دون مساعدة طبية ويكون ذلك خلال ثلاث سنوات على حين أن 15 في المئة منهن يحتجن إلى مساعدة طبيب نفسي حين تصبح أحزان الفقد مرضاً له أعراض جسدية ونفسية مؤلمة.
 
نصائح لكل أرملة ..
تعاني كل أرملة الحرمان والفقد والأسى والألم النفسي ، وتحتاج الى وسائل تعينها على تجاوز محنتها والخروج من مصيبتها ، وقد مر النبي – صلى الله عليه وسلم – على امرأة تبكي عند قبر ، فقال : اتقي الله اصبري ، فقالت : إليك عني ، فإنك لم تُصب بمصيبتي - ولم تعرفه فقيل لها : إنه رسول الله ، فأتت باب النبي فلم تجد عنده بوابين ، فقالت : لم أعرفك ، فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى ، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : (يقول الله تعالى : ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
 
لا تتعجلي شغل نفسك بما تظنينه صارفا عن أحزانك ، اهتمي بأولادك ، ولكن لا تبدئي مشروعات جديدة ، فإن الوضع الطبيعي في هذه المرحلة هو أن تعيشي تجربة الأسى والتعبير عن الأحزان بكل صورة مشروعة ، وقد شرع لك العدة أو الحداد على الزوج أربعة أشهر وعشراً من أجل ذلك يقول الله تعالى : (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشراً) ، إن هذا الهضم لأحزانك ينفس عنك ، ويخفف آلامك ، ويعدك لمرحلة تالية من الحياة تعيشينها في صحة نفسية وسلامة·
 
اعرفي المراحل التي تمر بها أحزان الأرملة ، وكيفية التصرف في كل مرحلة منها حتى لا تصيري إلى الاكتئاب والمرض النفسي ، واعلمي أن الأحزان تبدأ كبيرة ثم تصغر شيئاً فشيئاً كلما اتبعدت عنها مع مر الزمان ، وأن من أكبر نعم الله على الإنسان النسيان والسلوان·
 
لا تستسلمي بعد ذلك لأحزانك حتى لا تتحول إلى مرض نفسي وكآبة مزمنة ·· حاولي أن تعتني ببيتك وأولادك ، وأن تزوري أهلك ، وتستزيري صديقاتك ، وتتكلمي عن آلامك للمقربين حتى تهون ، كما قال شاعرنا أبو فراس الحمداني :
 
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا            تعالي أقاسمك الهموم تعالي

وبعد فترة الحداد مارسي حياتك بشكل عادي : اعملي ، وتحركي ، وشاركي في التطلع للغد ، وخططي لمستقبلك ومستقبل أولادك ، واعلمي أن شفاءك من الأسى على فقد زوجك سريعا ليس عيباً ، ولا يقتضي منك الخجل والإحساس بالذنب ، ان هذا امر طبيعي يحدث لأكثر الناس ، وهو سنة الله في خلقه·
 
لا تترددي في طلب المساندة من الأهل ، كالأب والأم والإخوة والابناء ، ويجب أن يبادر هؤلاء للآخذ بيدك لتعودي إلى حياتك الطبيعية·
 
كثيرا ما يكون الزواج الموفق علاجا لأحزان الأرملة ، ودواء ناجعاً لهواجسها ومخاوفها ، وإضاءة لليلها المظلم الموحش ، إنها تقاوم الزواج ، وتخاف أن تفقد أحزانها ، وتشعر بتأنيب الضمير ، وبأن زواجها خيانة للراحل العزيز ، وتظن أن سعادتها في زواج جديد خيانة لعهدها معه ، ولكن كل تلك الخواطر التي تطرحها الأرملة ، هي غير حقيقية·

التسميات: ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية