فن الواو الصعيدي موضوع شائق كتبه الأستاذ محمد عرفة توفيق، في المجلة العربية، بالعدد(400)، جمادى الأولى 1431هـ - مايو 2010م ؛ عرف فيه القارئَ بفن قولي استطاع أن يتجاوز
فن الواو الصعيدي موضوع شائق كتبه الأستاذ محمد عرفة توفيق، في المجلة العربية، بالعدد(400)، جمادى الأولى 1431هـ - مايو 2010م ؛ عرف فيه القارئَ بفن قولي استطاع أن يتجاوز حدوده البيئية الإقليمية الضيقة إلى آفاق أرحب؛ وهو من الفنون التي يجب التوقف إلى آلياتها وأساليب نتاجها، وقد سبق لي عقد مقارنة بين فن الهايكو الياباني وهذه الفنون الصعيدية، في كتابي مقدمة في الشعر الياباني، الذي نشرته المجلة العربية في كتيبها الشهري (شوال 1428هـ) .
وقد أثلج صدري، ما لمسته من محبة يلقى الكاتبُ بها موضوعَه، غير أنني توقفت إلى أمور أردت التنبيه عليها استكمالاً لجماليات تلك اللوحة الحميمة التي رسمها لنا؛ وإنها لجولة مشوقة، وبخاصة لأن الفنونَ القولية حاضرةٌ بقوةٍ تصحبُ معها أطيافاً من فيوضاتها، وذكرياتٍ من تاريخها العريق، الممتدِ الموغلِ في هذه البقعة من صعيد مصر، جذراً ونشأة وتكويناً؛ وقد حَضَرَتْ هذه النماذج في جغرافيتها بذاتها ولذاتها، لكنها كانت كالإصبع التي تشير إلى ألوان أخرى، هي المدد الحقيقي للذاكرة الشعبية في الصعيد؛ ومنها: الموال والنميم والمسدار والحاردلو ونعناع الجنينة .. وغيرها، فلنا في هذه الفنون نصيب كنصيبنا من الأُوَلِ؛ فعلى الرغم من فوضى الاندياح اللهجي التي خلقها الإعلام؛ إلا أن تلك الفنون ظلت قويةً بلهجتها تصارع كل ما يحدق بها من خطب وما يترصدها من رماح، وبخاصة بعد أن ضرب بعض الشعراء الصغار في مخزونهم بسهمِ غير الممارس، وبيد مرتعشة مهتزة؛ فقيض الله لهذه الفنون شعراء آخرين أرسخ قدماً في لهجاتهم وأقوى يداً وأعرك شكيمة، فنظموا منها المثال الأوفى والنص الذي يقف إلى جانب منبعه الموروث بفخر التواصل وعزة الاتصال، ومن هؤلاء في قنا من الأجيال التي كتبت الواو بعد أن كان شفهياً موروثاً الحاج محمد خربوش وعبد الستار سليم، ثم من الأجيال الأحدث عبد الناصر أبوبكر وخالد الطاهر .
والسمة التعبيرية الأجلى لهذه الفنون القولية تتمثل في كون تعبيراتها مقتضبة مكثفة بارعة في اختزال المضامين، ودمج الرؤى والتصورات والأفكار في صياغة مكتنـزة ذات عمق وقوة وبراعة في التصوير وإحكام في صوغ الدلالة والتعبير عنها بوساطة سياق مزدوج نصفه الأول يُسمى فرشاً وهو القضية الرئيسة التي يطرحها المربع أو العدودة أو الموال والنصف الآخر يسمى غطاء وهو معالجة منطقية لهذه القضية عدا أن الموال يردف ذلك بـطاقية هي خلاصة الهدف التعبيري أو الناتج الدلالي له .
أما بنية مربع الواو فتتكون من أربعة أغصان تُمَثِّلُ جداولَ دلالية أساسية، وتُعرف عند أهل هذا الفن بمصطلحات هي: العتبة ( وقافيتها أ ) والطرح (وقافيته ب ) ثم الشدَّة (وقافيتها أ) والصيد (وقافيته ب)؛ ونلاحظ أن التشكيل الرباعي للواو يشتمل على زوجين من المصطلحات المؤنثة (العتبة والشدة )، وهما يقابلان العروض في الشعر وهي مؤنثة أيضاً، ثم زوجين من المصطلحات المذكرة ( الطرح والصيد)، وهما يقابلان الضرب في الشعر وهو مذكر .
وينقسم الواو، بحسب قافيته، إلى مسوجر ( المُسَكَّر = المغلق بإحكام ) ومقفول وموارب ومفتوح، والأصل من بين تلك الأنواع في قافية الواو أن تقوم تلك القافية على التجنيس المعمى، أي أن الأصل في الواو هو المسوجر، الذي أغلق رتاجه، على خلاف المقفول دون إحكام الرتاج؛ حيث يستظهر الشاعر المسوجر عند أداء الدور سواء باستخدام التقسيم الصوتي للنطق بالكلمة على نحو مُوَضِّح أو بالتصريح بمفتاح فكّ الجناس .
أما من حيث التركيب الموسيقي، فالوزن العروضي للواو ثابت؛ إذ يُصاغ على أوزان البحر المجتث ( مستفع لن /ه/ه/ _ /ه ؛ فاعلاتن /ه//ه/ه )، وهو الوزن الوحيد له، وللأسف فإن جل مربعات الواو الجديدة تنكرت للمجتث وهربت غالباً بتفعيلته الأولى ( مستفعلن /ه/ه//ه ) إلى ( متفاعلن ///ه//ه )، وهو غير جائز في المجتث، إذ به يُخرج شاعر الواو الجديد فنه من حظيرة الواو إلى عراء المربعات .
وللواو أيضاً تركيب دلالي شبه ثابت، حيث ينقسم مربعه إلى جزأين رئيسين؛ أولهما يحمل دلالة أشبه بالقاعدة، يصوغه الشاعر في البيتين الأولين، أما القسم الآخر فيحمل دلالة مقارنة تستمد وجودها وفاعليتها من القاعدة الأولى التي أرساها الشاعر في القسم الأول من المربع، ثم يتم الدلالة أو المقارنة في القسم الآخر الذي يصوغه الشاعر في البيتين الأخيرين من المربع .
وإذا تأملنا قوافي المربع الكتابي سنلمس من قريب نيران قضية كبرى يُخَلِّقها الاحتكاك العنيف بين الشفاهة والكتابة، إذ يسوق الشاعر في واوه المكتوب لفظين مستغلقين شفاهة مكشوفين مفتوحين كتابة؛ لذ أرى أنه قد يصل الحد مع المسوجر والمقفول لحد الشرط الملزم في الواوات الكتابية لأن الكتابة نفسها لديها القدرة على فك مغاليق التجنيس، ومثل ذلك قول علي النابي مخاطباً قُلَّةً شربت منها محبوبته :
خَايِفْ أَقُولُّو يَقُولْ لا
وِالقَلْبِ مَرْعُوبْ وِخَايِفْ
ابْقِي قُولِيـ ـلا يَا قُلَّه
حين تُورِدِي عَ الشَّفَايِفْ
فالجناس بين ( يَقُول لا ) وبين ( قُُولّة ) جناس مغلق سماعاً لكن الكتابة تفك شفرته، لذا أجدني متمسكاً بشرط التجنيس التام مع التجوز في الناقص .
لكن منه ما لا يفكه تدوين وإنما يحتاج إلى تأمل وإعمال فكر، وهو مقصودنا من المسوجر الذي ندعو إليه، ومن تراث الواو:
وع اللي اتْبِلا مَا تْلُومَاشِي
دا شَيّ مَكْتُوب عَا - جِبْنِي
واللي يعمله المَوْلى مَاشِي
فلفظة ( عاجبني ) الأولى بمعنى يستميلني أو يستهويني، والأخرى (عا - جبني ) بمعنى (على الجبين)، ومن الواضح أن الكتابة لا دور لها هنا في فك مغاليق التجنيس، لأنه تغليق صوتي وربما أكون بذلك قد وجدتُ الفارق بين الواو المسوجر والمقفول في الواو الكتابية .
وقد أخلص المجيدون من الشعراء لفنهم فأقاموا حدوده ورعوا تقاليده وأصوله فاستهلوا وختموا مربعاتهم بالصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأمروا المتلقين بذلك، ثم ثنوا بالشوق إليه ثم أمروا بالصلاة عليه مرة أخرى، وأنا مع عنايتي بأهمية اتباع التقاليد الشفاهية في الفنون القولية في البدء بالصلاة على الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وغير ذلك من التقاليد، وأنا في الواقع أعتقد أن الرغبة في الاستئناس بالإيمان في مواجهة الزمن هي الدافع الأول من وراء هذا التقليد، كما أشير إلى أن المحافظة على تلك الفنون من تسرب العناصر المحدثة دون تقعيد علمي صحيح لمتطلباتها؛ وأنا مع ذلك لا أعد في الوقت نفسه، كثيراً من هذه الاستهلالات من فن الواو في شيء.
وقد سبق لي أن وضعت دراسة بعنوان (الصراع بين الشفهية والكتابية في فن الواو المكتوب ) اجتهدت في رصد عدد من النقاط التي تمثل ميداناً للصراع بين الكتابية والشفهية من خلال دراسة نماذج من فن الواو المكتوب؛ منها الصراع الصوتي حيث تعد الكتابة بعامة عملية انتقال من الصورة الصوتية إلى الصورة الجرامافولوجية، وهو ما يعد نكوصاً من جانب وتطوراً من جانب آخر؛ ومنها الارتجال إذ يعد الحفظ من الأمور المهمة للشاعر القولي، غير أن الكتابية أقصت فكرة الارتجال، التي كانت شائعة لدى شعراء الواو .
وثالث هذه النقاط : الطبع والصنعة؛ الطبع الفطري للشفهية في مقابل الصنعة المتكلفة للكتابية، أو ما يمكن التعبير عنه بالخروج من سيولة الأداء الفطري والنظم العفوي إلى جهد الصنعة ومشقة التتميم، أما النقطة الرابعة فهي التطور الاجتماعي وشفهية الإعلام وأثرهما في الشعر المكتوب، ثم خامساً الوزن العروضي، إذ إن لثبات وزن الواو العروضي دوراً مهماً في تخليق المعجم الخاص بالواو الشفهي، لأنه لا محالة سينطوي على صيغ جاهزة يمكن الاستعانة بها في تخليق واوات جديدة شفهية أو كتابية.
وسادساً استخدام الواو الكتابي للعنونة، التي قد تؤثر على لفظ (وقال) التي سمي الواو بها واواً؛ لكن الواو الشفهي يمتلك بنيات نمطية كبرى أشد اتساعاً من العنوان الضيق، مثل ( المحاسة )، و( الحرمات )، و(المحاسة) نمط من الواوات يتحسس المشكلات الإنسانية والاجتماعية الكبرى، أما (الحرمات ) فهي مجموعة من الموضوعات التي تعالج قضايا ذات حرمة اجتماعية أو قبلية أو كل ما له علاقة بالمحارم والحرمات؛ ويمكن أن تنضم تلك الموضوعات إلى الواو الأحمر أو ينضم هو إليها لأنه المَعْنِيّ بهذا اللون من الموضوعات.
وقد تراجعت هذه الفنون على الرغم من الجهود المهمة والمميزة التي تجتهد في سبيل الحفاظ عليها تراثاً ونتاجها فناً، وهنا أجدني أود أن أطرح تساؤلاً: لماذا لا نقر بوجود شعر شعبي يجب أن يكون له دور في الحياة الكتابية، وأن نُخَلِّق له شعراء يرفعون راياته كما فعلت اليابان مع الهايكو الذي ساد ثقافات العالم اليوم .