العابرون بقلم . محمد أبوشنب
“يا كريم.. يا كريم”.. كانت نداءه الأثير والوحيد.. لم أسمعه ينادي بغيرها.. لم يكن شحاذا لزجا كمن اعتدنا محاولة التخلص منهم عند قرعهم لمغاليق الأبواب الخشبية. جسمه ضئيل يمسك بيده جذع شجرة خفيف الوزن، ولم تكن ملابسه سوى قطعة قماش بيضاء كأنها كفن يحيط بدنه.
حقيقة لم أعرف اسمه.. كان يأتي قرب آخر النهار يطوف الشوارع.. من أين يأتي وإلى أين يذهب عند الفجر أيضا لا أعلم.. عندما جئته مرة في المندرة الغربية بوجبة العشا مع آذان المغرب، شكرني وناداني باسمي: “يا محمد”.. لا اعلم كيف عرف اسمي.. هل سمع أحدهم يناديني به؟ ربما.
كان واحدا من أشهر الوجوه العابرة لدروب القرية.. لم يهتم أحد بتفاصيل حكايته.. لم أره يتحدث مع أحد في أي مرة لاحقة.
غالبية العابرين لدروب القرية كانو من الدراويش الهائمين.. لا أعلم إن كانت كل القرى شاهدت نفس الوجوه أم لا، لكني اجزم أن قريتي كان لها النصيب الأكبر من وجوه العابرين.
“الشيخ الحناوي”.. كان من تلك الوجوه العابرة.. أتذكره ربعا ذو لحية بيضاء يرتدي أسدالا بالية.. عمامته تميزه من بعيد بلونها الأخضر.. تتدلى من رقبته عدد من السبح مختلفة المقاسات, لكن أهم ما كان يميز الشيخ الحناوي، هو كرباجه الجلدي على ظهره.
تذكر جيدا يوم كنا نلعب وأمسكت جدتي لأمي بأصغر أخوالي كي تعاقبه على فعل ما.. هنا ظهر الشيخ الحناوي من أحد الأزقة الضيقة فجأة، رافعا كرباجه الأسود في الهواء، وقال لها ألا تضربه.. دائما أتذكره رافعا كرباجه الأسود بيده اليمنى والغضب على وجهه وسبحه الملونة تتدلى من عنقه، والعمامة الخضرا تزين هامته. دارت الحكايات لاحقا عندما اختفى.. إنه رجل كريم من بيت طيب، لكن كتبت عليه تلك الأيام طوافا بين الدروب حتى انقضت وجلس في بيته مكرما بين أولاده وأحفاده حتى مات.
تناقلت الألسن والآذان حكايات عن كراماته المختلفة.. كلها حكايات لا يوجد من يكذبها.. منها تلك الحكاية الأشهر عن الأتوبيس الذي استقله من محطة قنا وطالبه أن يوصله إلى بيته، وترجى السائق، لكن سائق الأتوبيس رفض طلبه، فنزل وأوصاه أن يحذر الطريق التي سرعان ما غدرت بالأتوبيس وسائقه في حادثة بشعة.. حكى الناجون منها الحكاية.
الشيخ رفاعي واحد من العابرين.. واحد من دراويش الصوفيه الطيبين.. حقيقة لم اكن أحبه في البداية حين كان يأتي ويطلب “فحم للجوزة”.. لم أستسغ هذا الدرويش المدخن للجوزة! كان له صوت أخاذ وكأنه أوتي من مزامير داوود.. خفيف الظل ضحوك محب للناس. منذ عامين وأنا في الغربة عابرا لدروب أخرى، لم تعرفني من قبل، تذكرته.
أمسكت بهاتفي وطلبت من أخي أن إذا مر الشيخ رفاعي، فليهديه مني السلام.. كان الوقت قبيل الظهيرة.. عند المغرب جاءني اتصال من أخي أن الشيخ رفاعي جاء ليسأل عني.. حييته سريعا عبر الهاتف، بعدها بأيام علمنا بخبر وفاته.
تختلف وجوه العابرين، لكن يظل “قراء الطالع” لهم وقع خاص.. ما إن يصاب طفل بأي أذى حتى تأتي النصائح للأم من جاراتها: “شوفي له ريحته”.. كان أغلبهم من شمال السودان، ببشرة سمراء يفوح منها الغموض والسحر.. يقيسون النوى ويصنعون الأحجبة ويستشرفون المستقبل، من كف يدك، ولون عينيك واسمك مع اسم امك.. اتذكر وجهها الأسمر النحيف.. التف حولها الجيران تحت شجرة ليمون خضراء، وبدأت تنظر لوجوه الحاضرين. بدأت بأحدهم وأخذت تسرد له مستقبل أيامه، قالت له من يحبونه ومن يكرهونه ووصفت له زوجته في علم الغيب ورزقه الواسع المنتظر.. دار في خاطري حينها أنها امرأة لماحة وذكية فحسب، لا تعلم شيئا، وهي فقط تمني كل زبائنها بالخير في مستقبل الأيام.. قلت لنفسي، وأنا ارقبها في صمت.. أنا لا اؤمن بتلك العجوز.
توقفت العجوز للحظة عن الكلام، وأعادت النظر لأوجه الحاضرين في حدة وصمت، وكأنها تعيد رسم الملامح في ذاكرتها، ثم وجهت لي الكلام.. أنا وحدي: “أنت يا أبو وش طويل.. قوم من هنا ما تقعدش”
ثم تابعت الحديث لهم جميعا: “مشوا أبو وش طويل من هنا، وإلا هأقوم أمشي”.
تركتهم دون أن تخبرني شيئا عن مستقبل أيامي.
التسميات: أخبار نقادة, مقالات, من أرشيف الصحافة
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية