28‏/12‏/2016

الأفندي حسين للدكتور مصطفى رجب

ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏  
بقلم أ. د. مصطفى رجب 

قمت بعد مغرب الليلة مع اثنين من رفاق العمر بزيارة  الأفندي حسين : معلمناا الوحيد الباقي على قيد الحياة ممن علمونا وربونا في المرحلة الابتدائية ، مازال الرجل قوي الجسم والذاكرة وخفيف الحركة ماشاء الله ، أطعمنا فاكهة و سقانا زنجبيلا ، وروى لنا كثيرا من ذكرياته بأسلوبه الممتع ، ثم قبلنا يديه وغادرناه بعد أن ظفرنا بدعوات منه صالحات ، على وعد بتكرار زيارته . 
 لكنني سأعيد قصته على جيل الشباب من قراء هذه الصفحة لعلهم يحمدون الله على ما هم فيه من نعمة ونعيم :

 كانت المدرسة الابتدائية التي تخرجت فيها تسمى رسميًّا " مدرسة محمد حسن إبراهيم الابتدائية المشتركة " ، وتسمى شعبيا " مكتب الشيخ براهيم " وهي عبارة عن طرقة عرضها متران وطولها أربعة أمتار تفتح عليها أربع حجرات مبنية بالطوب اللبن ومسقوفة بجريد النخل وجذوعه .

هذه الحجرات الأربع تمثل فصول الدراسة ، كل فصل منها 3×33 متر على أشد الاحتمالات تفاؤلا . وتنتهي الطرقة ب "حوش " تبلغ مساحته 4×7متر تقريبا ، نقف فيه طابور الصباح ، وينتهي الحوش ب " سقيفة " مساحتها 3×3 م لا حوائط لها، ومسقوفة [ استنادا على عمودين من جذوع النخل] بالجريد أيضا . وتمثل هذه السقيفة " الإدارة المدرسية " ففيها دكة خشبية عليها " قِياس " [ = حصير بحجم الدكة من نبات الحلفاء] وأمام الدكة منضدة خشبية بلا أدراج مساحتها 40×40سم هي مكتب الناظر وهو سيدنا الشيخ براهيم ، الذي يستأثر وحده بالجلوس على الدكة لأنه صاحب المدرسة وديكتاتورها وفي شخصيته حدة وعنف وغلظة رحمه الله ، فيما كان معلمونا الباقون رحمهم الله جميعا يرتدون القفاطين والعمائم كالناظر ويفترشون حصيرا كبيرا على الأرض .
 وكانت تلك الحجرات / الفصول باردة ، مظلمة ، حيث لا كهرباء ولا منافذ إلا منفذا خشبيا ضعيفا ، فلا الفصول ترى الشمس ولا الشمس تزور الفصول ، وهي تحتوى مقاعد ( تُخَتًا) خشبية تتكدس بين شقوقها عائلاتٌ عريقةٌ قديمةٌ مؤصَّلة من البق والقمل والبراغيث والعناكب من سلالات تمتد أنسابها إلى قوم تُبَّع وذي نُوَاس وذي القرنين. وأما حيطانها فهي ملأى بالشقوق المسكونة بالعقارب والخنافس والثعابين والأبراص وشقائقهن مما لا نعلم من الدواب . وكان من المعتاد أن تلدغ أحدنا عقرب كل يوم فنحمله إلى أحد شيوخنا فيرقيه بقراءة آيات قرآنية عليه ويربط بمنديل قماشي قبيل موضع اللدغة ، ثم يعمد إلى " موسى " فيجرح موضع اللدغة ليخرج السم مع الدم ... ويبرأ الملدوغ عادة بعد ساعة أو ساعتين . وكان أكثرنا يتمنى أن يكون هو اللديغ يوما ما ، لأن شيوخنا كانوا يصنعون كوبا من الماء المحلى بالسكر والليمون يسقونه للديغ تعجيلا بشفائه ... وكان ذلك المشروب أنذاك ضربا من الرفاهية يدل به من يناله على زملائه ، لأنه لا يحلم بذوقه في البيت إلا في حالات المرض الشديد !!! 
كان المشايخ يعلموننا كتب الوزارة وهم  لها كارهون !! فكتب الوزارة فيها ضحالة بالقياس إلى ما حصلناه في المكاتب قبل سن السادسة من إتقان للقراءة والكتابة المضبوطة بالشكل ضبطا كاملا ، وما حفظه أكثرنا من القرآن : نصفه أو ثلثه أو ربعه أو أقل . 
لكن " أم الكوارث" كانت مادة " الحساب" ومادة " الأشيا " كما يسميها شيوخنا ‏‎‎‎‏ (العلوم والصحة ) كما تسميها الوزارة . فهذان منهجان لا قبل لشيوخنا بتدريسهما ، ففيهما من الشدائد مالا طاقة لنا ولا لهم به ، مثل : ضرب بعض الكسور الاعتيادية في بعض !! وقسمة بعض الكسور العشرية على بعض !! ، ورسمُ مثلثاتٍ ومربعاتٍ ومستطيلاتٍ ودوائر وتحديد زوايا ...وقد يستدعي ذلك شراء أدوات غريبة على سكان القرى في ذلك الزمان كل الغرابة ، ويرون فيها مُنْكَرًا لا عهد لهم به كالمساطر والمثلثات والبراجل وغيرها من الدكاكين .
 تدور بي الأرض – حتى الآن !! – حين استعيد مرارة وقع ذلك كله على عقولنا ، وصعوبته علينا وعلى مشايخنا آنذاك.
 وحدث أن أرسلت الحكومة أوائل الستينيات معلما شابا للمدرسة – سأكتشف فيما بعد أنه ابن عم لي – يرتدي بدلة أو قمصانا وبنطلونات لم نكن نعرفها أو نراها أو نتخيلها إلا أن تكون هي تلك الملابس التي نرى الزعيم جمال عبد الناصر يرتديها في الصحف . فلم يكن التلفزيون معروفا آنذاك . وإن كنا نسمع أن المدرستين الأخريين في النصف الجنوبي من القرية بهما معلمون كثيرون ممن يرتدون تلك " المناطيل" ، وبهما أيضا " معلمااات !!! " يرتدين ما لا طاقة لنا بتخيله من ملابس تخالف ما تلبس نساء القرية ، بعضها يصل إلى الرُّكبة وبعضها لا يصل ، وسمعنا أنهن لا يغطين شعورهن !!! . 
 كان قدوم المعلم الجديد- الأفندي حسين أو كما كان ينطقه شيوخنا : " لَفَنْدي حسين " – إلى مدرستنا شيئا غريباً ، فهو إلى جانب زيِّه ذاك الغريب المريب ، شابٌّ فتيٌّ في العشرين من عمره ، أو يدور حول العشرين . يحمل عصا طويلة من جريد النخل ، وفي جسمه وصوته ومشيته من عنفوان الشباب ما يملأ قلوبنا الصغيرة هلعا وجزعا ورعبا ، بعد أن ألفنا الحياة السهلة الرَّخِيَّةَ مع أشياخنا الأربعة وهم جميعا طيبون هادئون رحماء بنا وكلهم فوق الخمسين . 
 وحدث ذات مرة أن جاء " مفتش " من المديرية فوجد بعضهم غير موقع بدفتر الحضور يوم أمس ، فنصحه ونصح الجميع أن يقدم إجازة " عارضة " عن هذا اليوم ، فتحير شيوخنا رحمهم ، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون : ما عسى أن تكون تلك " العارضة " التي نصح بها المفتش ؟ وأرسلوا أحدهم إلى إحدى المدرستين الحديثتين جنوبي القرية فغاب عدة ساعات ثم عاد وبيده ورقة يمسكها بعناية هي صيغة الإجازة العارضة !!! فاستنسخ كل واحد من شيوخنا نسخة منها ووضعها في محفظة نقوده في قرار سحيق . !!
 كان سيدنا الشيخ براهيم في طابور الصباح – قبل قدوم لفندي حسين - يكتفي بكلمتي ( صفا) و شقيقتها ( انتباه ) مرة أول الطابور ومرة في آخره ، ويتوسطهما أن يطلب منا قراءة النشيد الوطني القومي يوميا بانتظام :
الله أكبر فوق كيد المعتدي .... والله للمظلوم خير مؤيد
أنا باليقين وبالسلاح سأفتدي.... بلدي ، ونور الحق يسطع في يدي
وكان يطلب منا قراءة النشيد الوطني المحلي من حين لآخر :
يا بني سوهاج للعلياء هيا .... ننشد المجد ونبنيه سويا
مجد " مينا" وبنيه في القديمْ... صانع التاريخ والمجد العظيمْ
في ضفاف النيل والدهرُ وليدْ
 [ وهو نشيد ألفه شاعر سوهاج الكبير المرحوم محمود بكر هلال واستصدر قرارا من أول محافظ للمحافظة سنتذاك 1960 اللواء عبد الحميد خيرت بإنشاده في طوابير المدارس ]
 ولما وصل الأفندي حسين بلباسه هذا الغريب لم يكن مستساغا أن يتربع على الحصير المفروشة على الأرض كما يفعل الشيوخ ، ولم يكن مستساغا أيضا أن يشارك سينا الشيخ براهيم الناظر دكته ، فالقياس الحلفاء المفروش عليها قد يؤذي بنطلون الأفندي ، فأرسل الناظر إلى بعض بيوت الجيران القريبة من المدرسة فاستعاروا منها كرسيا ليجلس عليه هذا الأفندي حتى يجدوا حلا لمشكلته !!
 فلما تولى الأفندي حسين تسيير طابور الصباح استحدث لنا ما لم يكن لنا به عهدٌ من تلك الحركات التي أنكرناها في البداية كل الإنكار ، ثم تأقلمنا معها كثني الجذع بوضع الركوع والنهوض منه ورفع الذراعين لأعلى وتحريكهما والنطنطة بوضع يقال له : " محلك سر " ...الخ تلك " البدع الحسينية" .. !! 
 وكان الأفندي حسين يسومنا العذاب بتسميع النشيدين معا كل صباح ، ويفاجئنا بعد أن ننتهي من النشيد بتكليفنا إعادة إنشاده مرة أخرى بصوت أشد !! فكنا نتعمد أن نسرف في الصراخ بالنشيد حتى تتجمع نساء المنازل المحيطة بالمدرسة فوق أسطحهن المشرفة على " الحوش" يستغثن ويولولن من هذا " الوَشّ" ويتأملن هذا لأفندي الذي أربك المنطقة .
 على أن هذا كله لم يكن شيئا مذكورا بجانب الطامة الكبرى التي اخترعها الأفندي حسين وهي تظهر حين ينادي : " اللي جاي حافي يطلع برة قدام الطابور " فيخرج ثلاثة أرباع التلاميذ ويظل الربع فقط ممن ينتعلون مراكيب بالية لا يكاد لونها الأصلي يظهر من كثرة ما ألصق بها الإسكافي من رُقَعٍ جلدية مختلف ألوانها ، أو صنادل ممزقة تحيط بها المسامير من كل جانب ، أو قباقيب خشبية مزعجة ...
ويتعالى صراخ الأطفال أمام شراسة الأفندي حسين وهو يهوي بعصاه بلا أدنى رحمة على رؤوسهم وظهورهم وجنوبهم وأذرعهم .. وهو يعلم أنهم وأباءهم لا يملكون ثمن حذاء أو صندل أو قبقاب . ولم يختاروا الحفاء ، بل هو الذي اختارهم ......
 ومع تعالي استغاثات الأطفال وصراخهم بأصوات مدوية رفيعة ، تتقافز السيدات الجارات إلى أسطح منازلهن المشرفة على المدرسة ، يشاركن الأطفال الحفاة الذين يُجْلَدون الاستغاثات والصراخ حتى يرق قلب الأفندي حسين وهو لا يأبه كثيرا ...ولكنه أحيانا كان يرق ...

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية