01‏/01‏/2017

سيدنا الشيخ شلبي و شمسه المشرقة 2 بقلم د. مصطفى رجب



ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏   سيدنا الشيخ شلبي وشمسه المشرقة2 بقلم د.مصطفى رجب 

...ولم يكن سيدنا الشيخ شلبي  رحمه الله يعبأ بالمنهج المقرر ، ولا يكاد يلتفت للكتاب إلا بقدر ما يُرضِي " المفتشين" الذين يزورون المدرسة كل شهرين أو ثلاثة ، فقد كان المفتشون في الستينيات أولي بأس شديد ، ومهابة عظيمة ، بالنظر إلى ندرتهم وسلطاتهم المطلقة ، وكان اتِّقاءُ غضبهم أو إغضابهم مطمحَ كل معلم ، فقد كان تقريرٌ من نصف صفحة يقدمه المفتش عن أداء معلم أو سلوكه كفيلا بنقله إلى " نَقْنَق " وهي آخر بقعة في محافظة سوهاج من الجنوب ، أي أن بينها وبين قريتنا " شطورة " أكثر من مائة وثلاثين كيلو في طرق وعرة ، وفي وقت كانت فيه وسائل المواصلات نادرة ، 
لكن سيدنا الشيخ شلبي كان إذا زار المدرسة زائرٌ ،  يتبع استراتيجيةً ابتكرها وجرَّبها ، وكانت تنجح في كل مرة ، فقد كان يرسلني أنا وزميليَّ محمد النجار( تخرج فيما بعد في الهندسة) ومحمد السيد عبد الكريم ( تخرج في التربية تخصص الفيزياء والكيمياء) وبقية من يراهم الشيخ شلبي نجباء الفصل ... كان يرسلنا لنجلس في الصفوف الأخيرة من الفصل ، ويوصينا أن نجلس " مبلِّمين " متظاهرين بالبلادة وعدم الفهم وألا نرفع أصابعنا إذا وجه إلينا الزائر سؤالا ، ويأمر من يسميهم " الصوامع " وهم بلداء الفصل ، باحتلال مقاعدنا في الصفين الأول والثاني ، ويوصيهم برفع أيديهم وأجسامهم وطرقعة أصابعم ومدها حتى لَتكاد تضرب خياشيمَ المفتش !! . وكان الشيخ ذكيا وواثقا من عادة مفتشي ذلك الزمان ، وهي عدم إيقاف النابهين ، والتوجه بالأسئلة إلى أواخر الفصول حيث يجلس " الصوامع " !!
وكان المفتش حين يُوقف أحدَنا – وهو متظاهرٌ بأنه مُبَلِّمٌ مرعوب !! -  ليعرب جملة فيعربها مشيرا إلى اللام المزحلقة !! ومفرقا بين نوني التوكيد الثقيلة والخفيفة ، ومُفَرِّقًا بين المانع من ظهور حركة الإعراب إن كان الثقل أو كان التعذر،... إلى آخر هذا النحو الغليظ الذي لم يكن موجودا في مناهج السنتين الخامسة والسادسة الابتدائيتين ، بله مناهج الإعدادي فيما بعد !!
فكان المفتش ينبهر بشيخنا ويبالغ في إظهار هذا الانبهار ، فيقول له سيدنا الشيخ شلبي مظهرا تواضعا مصطنعا تغلفه ابتسامة حلوة ماكرة كنا نحبها ونظراتٌ عجلى متقطعة إلينا نحن في أواخر الفصل : " أُمَّال يا أستاذ ؟ !! هو احنا بنلعب ؟ ده حضرتك سألت الصوامع اللي في آخر الفصل !!... فما بالك لو سألت هؤلاء العباقرة في الصفوف الأولى الذين يطرقعون أصابعم ملحين في طلب الإجابة !! " 
 ويخرج الموجه راضيا عن شيخنا كل الرضا ، فتكون هدية الشيخ لنا- بعد مغادرة المفتش - أنواعا من " الدُّرُبْس " النعناع يخرجها من جيب قفطانه لنا نحن دون الصوامع [ كانت الدُّرُبْسات الخمس بتعريفة – خمسة مليمات- ] الذي كنا نشتريه مرتين في العام في عيدي رمضان والأضحى . 
وكان من عادات سيدنا الشيخ شلبي  رحمه الله أن يُحَفِّظنا القواعد تحفيظا بأن نكررها خلفه بأعلى ما في حناجرنا من طاقة ، فيقول مثلا : " قاعدة كلية : ... " ويسكت سكتة لطيفة ، فيصرخ الفصل صرخةً مدوية ترتج لها مدرستنا المتهالكة قائلا : " الضمائر كلها مبنية !! " ، أو يقول : " كل اسم يأتي بعد اسم الإشارة فيه ألف ولام ويسكت . فنصرخ قائلين ( ... يُعرب بدلا أو عطفَ بيان !! ) ويشهد الله أنني فيما بعد وقد تخصصت في الجامعة في اللغة العربية لم أسمع بعطف البيان بعد المرحلة الابتدائية فلم تتضمنه مناهجنا لا في الثانوية العامة ولا في الجامعة ، أو لعل شيخنا في الجامعة كان يتفاداه لوعورته . 
 أما دروس التعبير التي تحوي مصكوكات الشيخ التي حفظناها فكان يصححها بترتيب عجيب ، فمن احتوى موضوعه على " يوم كانت شمسه مشرقة ونسيمه عليلا وسماؤه صافية" يحصل على 7 من 10 حسن ، ومن أضاف في آخر الدرس" وفقهما الله وسدد خطاهما " يحصل على 8 من 10 جيد جدا ، أما أنا والنجار[ الوحيدان تقريبا اللذان يحفظان القرآن أو أكثره ويحفظان من الشعر ما قد يستخدمانه في موضوع الإنشاء ] فكان يكتب لنا في كل درس هذه العبارة ( 10 على 10 حسن جيد جدا ممتاز ) فإذا نقصت العبارة كلمة من هذه الكلمات في كراسة أحدنا ، فهمنا من هذا النقصان أن الشيخ غاضبٌ ممن أنقصه ، فنجتهد في معرفة ما أغضبه ونتحاشى تكريره . 
 وبعد أن كبرنا وأصبحنا نجلس بجوار الشيخ مأمومين في صلاة الجمعة وكان إذ ذاك على المعاش ، كان يُخرج من جيبه مسبحة إذا صعد الخطيب المنبر ويعد على المسبحة الأخطاء النحوية للخطيب ، فإذا انتهى من عَدِّ ثلاث وثلاثين غلطة نحوية ، كان يناولني المسبحة لأحسب كما حسب فإذا أتممت عدَّ ثلاث وثلاثين غلطة نحوية أخرى للخطيب ، أعدتُ له المسبحة ليواصل ... وهكذا كانت صلاتنا تسعى لمرضاة سيبويه على حساب أبي حنيفة !!!
رحم الله سيدنا الشيخ شلبي  أحمد شلبي وأكرم مثواه وألحقنا به في الصالحين

التسميات: ,

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية