22‏/10‏/2017

منزل الغرباء .. القصة الفائزة بمسابقة الرائدية النسخة الأولى

منزل الغرباء
بقلم الكاتبة / فاطمة الحامد
لا شيء يعنيني في زحمة الضوء المنبعث من الغرفة المقابلة لشرفتي . لا صدى الموسيقا ولا همهمات بعيدة تنم عن فوضى الجسد التي تتراقص في دار لست أدري ما الذي يدور في أرجائها .
حديث غير مقنع تتداوله ألسنة الناس في حارتنا عن هذه الدار المسكونة بالأشباح . يدّعي البعض أن صاحب المنزل كان سكّيراً يعربد مع بائعات الهوى واختفى ذات يوم ولم يبق من المنزل إلا رجع الصدى المخيف . حتى ابنه لم يجرؤ على السكن فيه ، كما لم تقم وزارة السياحة بوضع يدها عليه على الرغم من تاريخه العريق لما يشاع حوله من قصص وحكايا تجعل الزائرين يرتعدون من الخوف .
يذكر آخرون أن هذا المنزل تعود ملكيته لأسرة تاريخية اضطهدتها مجموعات متعددة فغادرت المكان لاعنة من فيه ومخلّفة وراءها سراً مرعباً يسكن الغرف ، يتجول في الممرات على هيئة صراخ نساء وآهات مكتومة ورائحة أجساد تتكوم مثل العفن دون أن تدري ما الذي يدور في أرجائه حقاً .
يقول سليم الرجل الذي كان يسكن منزلي قبل أن أشتريه بنصف الثمن المتوقع (ظلّ الخوف يسكنني من فكرة مقابلة الشرفة لهذا المنزل المسكون بالأشباح ، أنا حقاً أخاف على أطفالي لذلك أبيعك هذا المنزل وأخبرك لماذا أبخسه ثمنه وأنت حر في اتخاذ القرار الصائب ، وإن قبلت شراء منزلي فسأكون سعيداً ) .
كثيرة هي المرات التي خطر في بالي بها أن أتسلل من شرفتي إلى الشرفة المقابلة وأنظر ما الذي يدور في هذا المنزل الكبير الذي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه .
سمعت مرة طرقة خفيفة على النافذة . لم يكن هناك أحد عندما شرعتها . شيء من الذعر تسلل إلى داخلي أنا الذي أسكن وحيداً في هذا المنزل المجاور لبؤرة الرعب بالنسبة للجوار .
أحدهم أغلق باب غرفتي علي دون أن أشعر أو هكذا تخيّلت مرة .
منذ سكنت منزلي الجديد قبل شهرين تقريباً وأنا أستمع إلى الكثير من القصص التي لا يستطيع حتى أبرع النساجون في العالم أن يحيكوا مثلها حول المنزل الغريب المقابل لمنزلي . أما أنا فلم أكن أصيخ السمع إلا لنداء عقلي الذي يقول لي بأن لا وجود للأشباح ، وأن الضوضاء هي من فعل الإنسان ، والفوضى هي شيء يصنعنا دون أن نصنعه ، أو نصنعه فنعجز عن صناعة أي شيء .
كنت أتسلى بقراءة الجرائد كل صباح والاستماع لموسيقا بيتهوفن . يهيّأ إليّ أحياناً أن سيمفونيته الخامسة تنبعث من المنزل مساء بصوت مرتفع يبعث الرعب في قلوب المارة العابرين للشارع . يقال بأن في هذا المنزل بيانو كبير كانت تعزف عليه شابة اختفت كما اختفى كلّ سكانه في ليلة غامضة وظروف أكثر غموضاً ليبقى وقع أصوات غريبة .
تارة يشعرك المنزل بأنه وكر أشباح وتارة تحسّ بأنه بيت من بيوت الهوى ، أما أنا ففي وحدتي التي أعيشها فقد كنت أكثر الأحيان أشعر أنه مسكون بشخص مثلي لا يخلو من الجنون .
مرة تلو مرّة تكرر ذات الحادث ، ستائر تتحرك يمنة ويسرة ، صوت بيانو مرعب ينبعث لولا أنني من يصغون لشوبان لما عرفت يوماً أن هذا الصوت هو سيمفونياته الصاخبة . صار هاجسي أن أدخل هذا المنزل الغريب !
دخلت مرة امرأة إليه وخرجت وهي تهذي وما لبث أن فقدت ذاكرتها بعد أقل من أسبوع وكل ما كانت تردده هو اسم صاحب المنزل المحفور على بقايا الحجر .
حاول شاب صغير السن التسلل مرة إلى حديقته الخلفية فةقع وكسر ساقه ولسبب غير معروف اضطروا لبترها خلال أيام ، ومنذ تلك الحادثة لم يجرؤ أحد على اختراق السور .
ككل ليلة موسيقا بيتهوفن وشوبان كانت تنبعث مع الضوء المخيف من الشرفة المقابلة . شيء من الرعب الممزوج بالرهبة كخيط الفجر الأول حين يمتزج بآخر الليل راودني . فكرة مجنونة اقتحمت خاطري وسيطرت على أفكاري ـ سأدخل الليلة هذه البوابة العريضة وأعرف ما الذي يختبيء وراءها حقاً ـ
يقال بأن كل من يدخل هذا المنزل لا يخرج منه وإن خرج منه حياً فإنه سيخرج فاقداً للذاكرة . أنا الهارب من ذاكرة مفعمة بالحزن ، ومن تاريخ لا ينتمي إليّ . أنا الهارب من أربعين سنة من عمري لم أحقق فيها غير كوني طبيباً في علم النفس يستمع لترّهات المجانين حتى قارب أن يكون واحداً منهم كما يراني من حولي . أنا من اعتزل هذا العالم الغريب المسكون [ألف سر مرعب أكثر من أسوار منزل . قررت أن أقتحم هذا السر الكبير الليلة .
مع خيوط الفجر الأولى وقبل أن يطلّ ضوء النهار حملت مصباحي ودخلت من البوابة الكبيرة . كل شيء هنا على حاله . المنزل مهجور لا أناس ولا أشباح مخيفة . بيانو كبير الحجم يتربّع وسط الصالة . من أين تأتي كل تلك الأصوات الغريبة ؟ لم أكن أعرف أين أنا ولا كيف دخلت ؟
وجدتني في غرفة مملوءة بأناس كثيرين لا أعرفهم بعضهم صغار وبعضهم كبار . الكل يغني بصخب ، ويرقص بمجون ثم يختفي مثل دخان لفافة تبغ ينفثها رجل في الستين يتوسط القاعة ويعزف ضوضاء عمر لا ينتمي إلينا ولا ننتمي إليه .
لم أكن أرغب بالخروج من هذا العالم . مرّت أيام وأنا أستمتع بالمكوث معهم . يقال في المنطقة بأنهم بحثوا عني كثيراً ولم يجدوني . حاولت أن أخبرهم أنني لست أنا ذلك المعلق بحبل مشنقة في غرفة نومي ! لا هو شخص يشبهني . كيف ؟ لست أدري لكنني حي ، وبخير ، وأسكن منزلاً كبيراً مخرجه متاهة لا أرغب بالخروج منها ، أنخرط فيها . من هو ذلك الغريب الذي شنق نفسه في غرفتي ؟ ولماذا يلطم الناس حوله وينزلونه بل ويلبسونه زياً أحبه في خزانتي !
لم أعد أعرف حقاً لماذا كلما جلست في الغرفة وراقبت شرفة كنت أجلس عليها ألمح رجلاً غريباً يفكر متى سأقتحم هذا المنزل الغريب وأضحك أضحك بقوة ، أقهقه ، فيرتعد الغريب الذي لا يراني ! وأعود للصالة لأحتسي فنجان قهوة .

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية