قراءة في مجموعة (مقام الفتح) للقاص أيمن حسين
القاص أيمن حسين |
جماليات القص
قراءة في مجموعة (مقام
الفتح) للقاص: أيمن حسين
يعتبر الفن القصصي من الفنون السردية الاكثر صعوبة
في الكتابة والتعبير عن الفكرة ، لانه فن يحتاج الى مهارة وقدرة على الجمع بين تقانة
الكتابة، والالمام بالموضوع، فن يقوم على " الحذق والكثافة والاقتصاد الشديد في
اللغة – تشكيلا وتعبيرا وتدليلا…" تتحول تجربة القاص خلاله الى نص فني يقوم على
مجموعة من العناصر هي قوام جسد النص، ينكتب بلغة فنية تستقبل التجربة لتحولها الى نص
فني له مقوماته وعناصره التي تميزه، وجمالياته التعبيرية، وافكاره التي ينطوي عليها..
وبما ان اللغة هي قوام اي خطاب فني شعرا كان ام نثرا؛ ولان الاشياء لا نعرفها الا بواسطة
اللغة الدالة عليها. تصبح القصة نسق لغوي تعبيري " تتلاحم فيه اللغة التصويرية
واللغة الوصفية واللغة السردية بأشكال تتفاوت بتفاوت الكتاب والبيئات والموضوعات"
.
ان القارئ للمجموعة القصصية (مقام الفتح) تستوقفه مجموعة
من التقنيات التي يلجأ الكاتب اليها عن وعي او غير وعي، تقنيات تجعل من قصصه متميزا
بلغته وصوره وافكاره المستمدة من الواقع، ولا يمكننا ان نتعمق في هذه القصص او ان نقرأها
من الداخل بعيدا عن العنوان الاول الذي عرفت به المجموعة، والذي يحيل القارئ على القصة
السابعة ، واذا كان العنوان بنية صغرى تقابل البنية الكبرى/ النص، ونظرا لاهميته من
حيث هو مواز نصي يحفز القارئ وينصب له الشباك كي يوقعه في متاهة التأويل، يتصدر النص
ويحيل عليه ما جعل محمد مفتاح يمثله بالراس من الجسد، وهو عند جاك دريدا كالثريا تشع
على النص، وتضيء مساربه، كما نبه جيرار جنيت في كتابه ( عتبات) الى وظيفته كمؤشر جمالي
ودلالي واشهاري.. فماذا يمثل العنوان في هذه المجموعة؟؟ وما علاقته بباقي العناوين
الاخرى.
1- قراءة العنوان:
ان القارئ للمجموعة القصصية (مقام الفتح) يجدها تقوم
على العجائبي كاستراتيجية فنية ودلالية، مع ما لهذه التقنية من تأثير على القارئ الذي
يتتبع احداث القصة بشغف كبير، كما ان القصة تشبه قصص الف ليلة وليله بمغامرات البطل/الشخصية
في اعالي الجبال واعماق البحار بحثا عن كلمة السر ، واما العنوان في تركيبته الاسمية
فانه يعطي القارئ انطباعا بحالة من التزهد والصوفية، فلفظة مقام تحيل على المكان المقدس/مقام
ابراهيم، وقد ارتبطت هذه اللفظة بالفتح، والتي تشكل فضاء زمانيا استشرافيا ، وهو بهذا
يجمع بين الزمان والمكان في صورة مشوقة مغلقة لا تبوح بدلالاتها بسهولة، كما توحي بالمعتقد
الشعبي الذي يؤمن بالخوارق والأرواح ، وهذا ما يجعل العنوان نافذة يطل من خلالها القارئ
على مشارف النص، بل ويدفع به الى متاهاته الخفية التي قد تتبدى بعد الانتهاء من قراءة
المجموعة كلها ، وقد يتركنا ننتظر املا في ايجاد الاجابة او مايشبهها…
ولو تتبعنا عناوين القصص المكونة لمتن المجموعة، سنجدها
انصاغت صياغة جميلة ومهمة لأنها جاءت مؤشرة على قدرة الكاتب في اختيار عناوينه، وقد
تفاوتت بين عناوين ( لفظة واحدة) كعنوان القصة الاولى (خرس) وما تحيل عليه من دلالات
توحي بالخوف والتمنع والضعف.. فاذا كان العنوان عند (ليو هوك) علامة لسانية تظهر على
راس النص قصد تعيينه وتحديد مضمونه الشامل ، وكذا جذب القارئ واستهدافه، فإن (ميتران)
يعطي للعنوان مجموعة من الوظائف يجملها في: "الوظيفة التعيينية/التسمويه، الوظيفة
الاغرائية اوالتحريضية ، والوظيفة الايديولوجية.." ، وهذا ما يمنح العنوان احقية
القراءة والتأويل. كما نجد العنوان المكون من جملة مثل( بعد العاشرة والربع .. تحديدا
هذا ما حدث) مع ما للعنوان الطويل من قدرة على التدليل، وتلخيص مضمون القصة، لكنه عنوان
مقتبس من نص القصة يصرح ولا يلمح، نجده في متن القصة في قوله: ( يتقافز خلف المقطورة
الخلفية الاولاد الهاربون بعد فسحة العاشرة والربع من سور المدرسة التجارية القريبة
من مسارات الجرارات للعبارات النهرية والتي ستحمله للضفة الاخرى . هل كان لا بد في
تلك اللحظة بالذات ان يمر الجرار امام ذات المنزل والولد يحمل الانبوبة الفارغة.) ،
عنوان طويل يصلح ومضة تجذب القارئ وتدفعه الى التوقف عند العناصر المكونة لمثل هذا
العنوان الذي انبنى على الزمكانية ، وهو يقوم على شقين او عنصرين/جملتين دالتين، وكأن
الجملة الثانية نتيجة قهرية/قضائية للجملة الاولي ، ولو لم يوجد في هذا الزمان بالضبط
في هذا المكان ما كان حدث الذي حدث. ليبقى عنوانا مشعا يشكل مع الجملة الاستهلالية
التي يقول فيها:(الولد والعربة والحمار يجرهما، يد الولد تمسك بالمفتاح نمرة 32 ، اليد
الاخرى تقبض على طرف اللجام الملفوف حول فم الحماروعنقه باحكام، اليد تنزل على انابيب
البوتجاز المرصوصةخلفه ليملأرنين خباطته الشارع كله)
اما العتبة الثانية فهي الاهداء وقد جاء مباشرا (لـ
مريم وامها) بتوقيع ايمن، يوحي بعاطفة فياضة انسكبت مع كل حرف من حروف الكلمات الثلاث؛
والتي لخصت احاسيس الكاتب، فعادة ما يكون الاهداء لاقرب الناس ( الام والاب، الزوجة
والاولاد، صديق عزيز، فقيد غائب، او حتى الى شاعر او مبدع ما؛ كأن يكون مثلا الى روح
محمود تيمور معلمنا في القص). وهو سنة تعودنا على رؤيتها في مقدمة كل الكتب، والمجاميع
، والدواوين، وغيرها من الكتابات، ليبقى الاهداء عتبة ذاتية تتحكم بها عدة معطيات عائلية
وعاطفية واجتماعية وحتى فنيه. والاهداء هو تقدير من الكاتب وعرفان يحمله للاخرين، واهداء
كهذا يدخل في باب الاهداء الخاص مثلما عرفه جيرار جنيت " يتوجه به الكاتب للاشخاص
المقربين منه، يتسم بالواقعية والمادية" وتستوقفنا عتبة ثالثة وهي عتبة الاستهلال
في كل قصة وقد تنوعت في هذه المجموعة وتشكلت تشكلا جماليا يجعل منها بحق عتبة
" تشتغل على فاعلية التركيز العلامي وتبئيرها في منطقة حيوية مركزة" ، عتبة
لها اهمية في توجيه القراءة وخلق العلاقة بين القارئ والنص من بداية مفتتحه/ جملة الاستهلال،
والتي يعدها بعض الدارسين من اخطر العتبات بنائية، لانها تسهل مرور القارئ بين العنوان
والنص، وتستفز لديه مجموعة من الاسئلة، وتحفزه على الاستمرار في القراءة ، وهذا ما
ادى بالاستاذ محمد صابر عبيد لأن يطلق عليها ( هندسة البدايات) فهي " تتكشف عن
هندسة شكلية وتعبيرية بالغة الاهمية لبدايات علاقة المتلقي بالنص القصصي" تقوم
على الاسمية بدية من قصة خرس والتي تقوم على الدهشة وشيئ من اللامعقول الممتزج بالواقعي
، وهذا ما يضع القارئ منذ البداية في حالة تأهب لاستقبال نص فيه نوع من الغرابة يقول:
( عينان لم يرهما احد بين اشجار الموز في الظلمة، العينان رأتا والعينان عرفتا لكن
انى للسان ان يبين)، فتكرار لفظة العينين وتفاعلهما مع الخارج في زمن لايمكن ان نرى
فيه شيئا وهو ظلمة الليل، تجعل جملة الاستهلال تشتغل على اثارة القارئ ، مع ما للعيون
من دلالة التربص، والتلصص بعيدا عن عما يحدث لتكون شاهدة على الفعل بعد ذلك ، وهذا
ما تحيل عليه العبارة الاخير من المقطع الاول:
( الفتى وصاحبه يتبادلان النظر اليها،
ثم يختليان بعيدا عن الطريق الترابي خارج بيوت النجع، والطريق ملاصق للترعة والذي ستكشف
بالقرب منه جثة احدهما ملقاة في مزرعة الموز القريبة من الطريق.) وهذا ما يجعل الجملة
الاستهلالية ، وتقديم العينين ينطوي على حالة كولسة، وبالتالي على حدوث شيء في الخفاء،
ليفاجأ القارئ بخبر الجريمة والتي ستكون مفتتحا دافعا للقارئ بقوة لاكمال القراءة والبحث
عن السر تماما مثلما يحدث في القصص البوليسية .
الغرابة واللامألوف:
ينفتح مجال الحكي في مجموعة مقام الفتح دوما على فضاءات
الغرابة على جميع المستويات ما يجعل امر الواقعية السحرية هو الطاغي على اجواء القصة
بما يحمله من تشويق ولغة هاربة بين الواقع والخيال، وقد استطاع القاص ان يوظف السرد
العجائبي بقدرة العارف فيمزج بين عالمي الواقعي والواقعي السحري ، المألوف واللامألوف
فلا تكاد تخلو قصة من المجموعة من اجواء ومناخات عجيبة، الشخصية تصعد الى اعلى الصخرة
وتهبط الى اعماق الماء، وتسير على سطحه، ونظرا لما للعجائبي من اهمية " تنبع من
كونه قصا غير واقعي وان كان فيه قدر من الواقعية، باستطاعته ان يشحذ الخيال وينشط الذاكرة
ويعود بها الى جذور نشأتها الأولى" .
ويتبدى هذا العجائبي في مستويات كثيرة من المجموعة
بدءا من العنوان ( كرة النور)، الى التلون والتحول ( لمن كان ذلك الوجه الذي القى بداخلي
الخوف لما رأيته، يطير ، يشع، كرة من النور تسبح في الفضاء الى ان تستقر بين كتفين
فيصير رجلا، وحدها كانت الدموع تخر وتنميلة سرت في جسدي بينما بقي فمي مفتوحا) ونحن
اذ نوظف لفظة العجائبي فلأنها تؤشر عل كل ما يخرج عن المألوف، " لكونها كلمة شاملة
تنطوي على الغريب والمحير والخارق" . فالكرة من النور، تسبح في الفضاء، تستقر
بين كتفين ، تتحول الى رجل، ولا ينتهي العجائبي عند هذا الحد في القصة، او على مستوى
قصة واحدة في المجموعة، بل ينتشر عبر عدد من القصص ليشكل ظاهرة فنية في مجموعة ايمن
حسين، ففي قصة بياع الحواديت يستمر القاص في نهج السرد العجائبي اذ يقول في نهاية الفقرة
الاولى من القصة: ( انت المركز والكل لاتسمح له ان يدور حولك بل ينجذب اليك بشدة، على
اطرافك تفط في الهواء اثناء سيرك وكأنك لا تريد ان تلتصق بهذه الارض، تحوطك الهالة
من المندهشين يبتاعون حكاياتك) وغيرها من مظاهر العجائبي في قصص المجموعة سواء على
مستوى المكان، او الشخصيات، او الاحداث، او اجتماعها في قصة واحدة مثلما نجده في قصة
( مقام الفتح) والتي استمدت المجموعة عنوانها منها، حيث العجائبي يطغى على مجريات الاحداث،
ليتعداها الى المكان، والشخصيات وكمثال على هذا ناخذ نصا من منتصف القصة يقول: (نزلت
عائدا ابحث عن صاحبي فلم اجده. فوضعت قدمي على الموج وناديت يا فتاح فسرت، الى ان وصلت
لمكان مركبي فناديت، فأبصرت طريقا في الماء فولجت.اهبط واهبط وكلما ناديت تتفتح امامي
المسالك والدروب،عرفت ناس البحر وما ان ذكرته ولو بالإشارة لهلكت، فلا وجود للزمان
والمكان ولا يعرف ليل ولا نهار في الظلمة ضياء وفي النور ظلال مخملية ورأيت ظهورا يقطر
منهاالدم والسوط بيد الجلاد يرتفع وينزل فأدركت ان الظلم لصيق بالانسان…) فيتبدى العجائبي
في كل عبارة وفي كل كلمة او حركة، في الزمان والمكان ، وفي الشخصية التي تلج معابر
لا يمكن ان تتحقق الا في عالم سحري؛ ما يحقق للقارئ نوعا من الاندماج الفعلي مع مكونات
الخطاب القصصي، بجمالياته لتنهض قراءته على مهمة التواصل بينه وبين المبدع من جهة،
وبينه وبين النص الذي يتشكل من اطار لغوي متقن يفجر الدلالات في القصة؛ حيث "
اللغة السردية التي هي الاداة الأولى للتعبير الجمالي عن التجربة انما تتمكن من تحقيق
ذاتها الجمالية عبر انطوائها على شبكة اسرار خاصة تؤلف خطابها من خلالها"
ولا تخرج الخاتمة عن اطار العجائبي في معظم قصص المجموعة،
وهو جانب جمالي قامت عليه ، لتستثيرنا الخاتمة وتزيد دهشتنا ادهاشا بم اتنطوي عليه
من خوارق احيانا، وغموض احيانا اخرى. ولا يخفى علينا ما للخاتمة من اهمية؛ فهي اخر
ما يقرأ، لكن اثرها يستمر بعد الانتهاء منها، ما يجعله ذات حمولة جمالية ودلالية في
الان نفسه " وترتبط عتبة الاقفال في الكثير من الاحيان بشعرية المفارقة التي تسهم
اسهاما فعالا في الوصول الى لحظة تنوير إقفالية تدهش المتلقي وتقنعه بجدوى ضرورة انهاء
حفلة السرد في القصة" ، وهي عند ايمن حسين جاءت ملائمة للاجواء العجائبية السائدة
في المجموعة ، كما نجدها في كثير من الاحيان تكمل ما جاءت به عتبة الاستهلال حتى ان
القصة الاولى تبدأ بالعينين وتقفل القص بهما،يقول : ( العينان انتبهتا للشبحين يتعانقان.
فتوقفت اليد التي كانت تدعك. العينان بظتا ، والاذنان لا تسمعان والفم مفشوخ على اللسان
الذي اخذ يولول )لتسهم الخاتمة في شد ازر الاستهلال في الاحالة على العمل في الخفاء/
والتلصص/ والمراقبة، لكن دونما نتيجة تذكر، فرغم حالة الدهشة التي تعبر عنها ( العينان
بظتا) الا ان رد الفعل كان سلبيا، وان كانت توحي الولولة بنوع من التعبير لكنه تعبير
ابكم غير منطوق ما يقلل من اهميته لعدم فهمه، لكنه يعبر عن رؤية القاص ربما المتشائمة،
وليظل الضمير مسيطرا في غياب الاسماء او توصيف الشخصيات وقد يكون لالحاحية العيون بالذات
قيمة اجتماعية ونفسية خاصة تحيل على واقع ميؤوس منه.. وترسم الخاتمة في قصة كرة النور
اجواء نفسية ممزوجة بالعجائبي اذ يقول: ( هناك في اخر الطريق ارى بصيص ضوء كلما اقترب
منه يتحدد لي يمسك بفانوس الضوء . قال الان وصلت واشار ان اتبعه) على مافيها من تصوير
غريب الا انها توحي بشيء من التفاؤل، والاهتداء من خلال تتبع الظل في حالة الغياب عن
الوعي بعد السقوط.اما قصة بعد العاشرة والربع فتتجلى فيها المفارقة في كون الفتى/الولد
الذي يحضر انبوبة الجاز كان منشغل الفكر وهو يعبر الطريق، وهنا تجدنا نتعالق مع جملة
الاستهلال التي مهدت للحدث، فكان الاتساق والانسجام والتكامل بين العتبتين يقول: (
الولد ينظر للعود في الهواء، وللبنت في الشرفة وللحمار الذي يمشي بالكارو، وللأولاد
حوله، وللمرأة التي تنادي، وتبظ عينيه لما يرى الجرار الآتي خلفه بلتهم الشارع ولم
يعد بينهما الا متر واحد) .
وهكذا ااستطاع القاص في مجموعته هذه، ان يحقق عنصر
الادهاش مؤكدا مقولة المبدع الذي لا يدهش القارئ فهو ليس بمبدع، من خلال اهتمامه بكل
العناصر والمقومات الجمالية ما يجعل من فضاء االقصة فضاءا فنيا جماليا
التسميات: أدب
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية