21‏/10‏/2016

قبل الحياة بدقائق قصة لـ أحمد أبودياب


قبل الحياة بدقائق *
                  بقلم . أحمد أبودياب 


الجو ملبدٌ بالدخان والسماء عن البلدة محجوبة حقيقةً ومجازًا بمد البصر.
ومن تحت بيت مفتت برزت سيدةٌ تقاتل لتحرك طرفها بعد أن أصابتها طلقات النار وأقعدتها النيران في مكانها، كانت السيدة حامل وعلى وشك الولادة في أيامها الحالية، ولم تحسب أبدًا أن القصف سيتجدد في هذه الآونة وينهي حياتها وحياة وليدها التي لم تبدأ بعد.
ولكن القدر لم يمهلها لتضع حملها في سلام وعلى سرير كالأخريات، جاء الضربُ مباغتًا ومركزًا هذه المرة ولم تُمنح فرصة للفرار أو حتى الاختباء عن أعين الطائرات.
أحست بألم إضافي غير ما يكتنفها من أوجاع جراء الانفجارات الشديدة، هو المخاض يعتصر جسدها ويسحب روُحها للأسفل، بكت حُرقةً واستعبرت لحالها، كيف لها أن تمنح بطاقة حياة لوافد جديد في حينٍ تُستلب فيه البطاقات عنوة.
لم تقو على الصراخ لما أصابها من وهنٍ وما حل بها من ذهول، ردت دموعها وتمنت لو أن ذلك لا يتم وتموت هي ومن فيها لكي لا تجلب ضحايا جددًا للحرب.
مرّ الوقتُ بطيئًا وقاتلًا ككل ما حولها وهي تحاول أن تمنع المأساة أن تحدث، آهٍ لو أن جنينها سيسمعها لو تحدثت، لتخبره الحقيقة وتقنعه بالعدول عن المَوْلدِ والسقوط في هاوية الدنيا، ودّت لو أفهمته أن بطنها أكثر أمانًا إلى أن ينتهي الأمر، ولكن هذا كله لن يحدث والمولود أصّر على الدخول في التجربة ورؤية الدنيا بعينيه هو لا أمه.
تبددت الأماني لمّا انزلق منها ابنها خلال شهقاتها المتسارعة وأنّاتها الرافضة المنزعجة، وبدأ البكاء يكون مقسومًا ما بين الوالدة والمولود.
مدّت يداً وحاولت التقاطه وتخليصه من الحبل الواصل بينهما، فعلتها ثم تراخت واسندت رأسها على حجرٍ وأحست بالموت يسري بجسدها، صمتت وماتت دون مقاومة وأفلتت من الحياة بأعجوبة، وتبقى الصغير في مهده الترابي يصرخ فيشقُ الوجوم المطبق على المكان ويُعْلِمُ القَتَلَة عن مكانه.

* القصة نشرت بجريدة الأهرام عدد الخميس 20 أكتوبر 2016 .

التسميات:

0 تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية