ارقصوا للحياة .. بقلم . محمد أبوشنب
ارقصوا للحياة .. بقلم . محمد أبوشنب
شاهدت الآن عبر الفيسبوك ويوتيوب مشاهد لفتيات مصريات يحاولن الرقص على نغمات فرقة موسيقى هندية، ضمن احتفالات مهرجان الهند على ضفاف النيل.. المشهد القصير نال كمية من المشاركة والجدال وكان غالبية المعلقين رافضين للمشهد بين ساخر من وزن الفتيات الزائد أو من جنح به الخيال فربط بين الرقص والحجاب والجينز الضيق.
الرقص هو حركة للجسد.. حركة منغمة يتمايل فيها الجسد على وقع جرس معين.. يتباين الرقص والنغم بين راقص التنورة بحركته الدائرية وراقص المولوية ورقص الإنشاد الصوفي وتمايل الجسد لحفّاظ القرآن والذاكرين. سألت يوما عن رقصات الذاكرين في حضرات الذكر لأهل الطرق الصوفية. فقيل لي هي رياضة بدنية وروحية، مع حركة الجسد تصبح الروح أكثر خفة وأكثر حضورا.
بنات مازن كن فاكهة الليالي البعيدة في ليالي الصعيد.. غوازي بلغة الصعيد.. راقصات شعبيات بلغة الحداثة.. ملابسهن المبهرجة – حينها – كانت أكثر حشمة ووقارا من زي أي فتاة عادية تمر بجانبك في شوارع المدينة. لكن كان يعد لهن مسرح من الدكك الخشبية أو من مقطورة جرار زراعي، ويجلس الجميع يشاهد بأدب على الأرض أو على دكك خشبية أقل ارتفاعا.
لازلت اذكر آخر طبل بغوازي أحضره طفل.. طبل بغوازي هو حفلة مزمار بلدي يصحبه بنات مازن أو غيرهن من الفتيات.. غنين ليلتها “يا الكهربا يا الكهربية، عايز ياخدني ابو طاقية”.. كن “عوازي” محترفات ومحترمات قبل أن يختفي رقص الجسد الجميل، ونبدأ جميعا في هز أخلاقنا ومبادئنا حسب الحاجة.
في أفراحنا جميعا، كانت الفتاة صاحبة الحركة الرشيقة والروح الخفيفة غاية كل أهل عرس، أن تأتي إليهم وتشاركهم.. كانت أفراحنا بسيطة.. كانت كل البنات ترقص وتحاول أن تجتهد في ما تعلم رقصات أقرب إلى أن تكون أفريقية منها إلى الرقص الشرقي، لكنه أداء مبهج.
الموت كان له رقصاته وأغنياته أيضا.. كانت فرق الندابات والمعددات فرق محترفة.. لازالت قريتي تتحاكى عن واقعة “ندابات قرني”، وهن فريق من الراقصات الجنائزيات المحترفات – قرني وهو اسمه بعد التعديل حتى لا ادخل في متاهة حساسيات الصعيد- كان لهم أقارب في إحدى القرى القريبة من الأقصر، وحين جاءه الأجل، جاء أقاربه بالندابات، ويحكى أن القرية بأكملها جاءت لتشاهد رقصة قرني الأخيرة مع فريق الندابات والمعددات.. رقصات أفريقية وفرعونية مع حركات واسعة وقفز للأعلى ممسكات بالعصي الخشبية.
الزار أو ما يعرف في الصعيد بـ “التنزيل”، حيث تنزل الأرواح الشريرة الجاثمة على صدورنا وتنزل العفاريت التي ركبت أجساد المريضات، هو رقص أيضا.. كانت له احتفالاته الخاصة وتجهيزاته المختلفة.. خلط بعض النصابين والدجالين حفلات العلاج بالرقص بأشياء وهمية، لكن في النهاية هو رقص لعلاج الاكتئاب.
في الخليج اكتشفت أن هناك في التراث حفلات مشابهة كانت تقام لنفس الهدف.. تنزيل الهم عن الأرواح وإعادة بهجة الحياة لها.
جاءت سنوات التسعينيات وعلمنا حينها أن الطبل بغوازي، حرام ورجس
من عمل الشيطان!
امتنعت فتيات العائلات عن المشاركة في ليالي الرقص التي تسبق دخلة العروس بعد صحبة الدربكة وأغنيات الجدات يرددن: “داخل يديني جنيه طالع يديني جنيه على رنة البوفيه”، واختفت “يا قهاوي قنا والفرح كله هنا”، وحلت محلها ديجيهات بموسيقى صاخبة لا تعبر عنا ولا عن أفراحنا.
اقيم الآن في الخليج.. ارى الهنود من حولي في كل مكان.. فتياتهم لسن بهذا القدر من الجمال الذي تروجه لنا بوليوود، لكنهم – جميعا – لم يتبرأوا من رقاصتهم الشعبية ولا نغماتهم ولا أزيائهم.. يبتهجون ويرقصون ويصنعون من حركاتهم البسيطة رقصات تبهج الدنيا.
مجتمع لا يحتفي برقصاته وأنغامه الشعبية، هو مجتمع ميت لا يقدر قيمة الحياة، فهذا القدر من التهكم والهجوم – أيا كانت أسبابه – ما هو إلا حالة من العجز يعاني منه المتهكم.. هو لا يستطيع أن يتخيل نفسه مبتهجا يتمايل على نغمات الموسيقى وسط الجموع.. هو يخاف من نفسه وممن حوله، فيسارع بالهجوم.
الحكاية بسيطة ارقصوا.. ارقصو عشان الحياة.. عشان صحتكم هتكون أحسن.. ارواحكم هتكون أخف.. لما ترقص هتكتشف الحيز اللي بتحتله من الكون والفراغ المحيط بك.. اختر رقصتك المفضلة.
الليلة.. هو ختام مولد السيدة نفيسة.. روح شارك الصوفية رقصاتهم.. مهرجان الهند لسه قدامه أيام.. روح ارقص يمكن نشوف فيديو لرقصة أحلى محدش يسخر منها.
ارقصو باجسامكم وتمايلوا، وابتهجو بأرواحكم، وامتنعوا عن أن تهتز محبتكم للحياة.
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية