اللهم لا تسلط الـ«نوكيا» على هذا البلد
محمد هشام عبيه
من النسخة الورقية لجريدة اليوم الجديد الأسبوعية
بملامح صلبة تستوعب قدر تحملها المسئولية، وبعيون مليئة بالانكسار والإحساس بالخزى، والأمل فى الصفح والمغفرة، وقف «كو دونج جين»، الرئيس التنفيذى لشركة سامسونج العالمية، فى قلب مؤتمر صحفى عالمى فى العاصمة الكورية الجنوبية «سيول» فى الثانى من سبتمبر الحالى، لينحنى معتذرًا فى أسف واضح عن الخطأ الفادح الذى وقعت فيه شركته العملاقة خلال تصنيع هاتفها الحديث «جالكسى نوت 7»، مما تسبب فى انفجار بطاريته فى بعض الحالات، وهو ما ترتب عليه استدعاء أكثر من 3 ملايين جهاز من العالم بأسره.
لم يكذِب. لم يلتفّ على الحقيقة. لم يناور أو يراوغ. لم يخش مساءلة قانونية محتملة. لم يدخل فى حسابات معقدة تحمل علامات استفهام كبرى على مستقبله أو مستقبل شركته. فقط اعتذر. ربما بهذا الاعتذار وهذه الانحناءة كان يحافظ على ماضى شركته ويحاول أن يضع لها قدمًا فى المستقبل من جديد.
بعده انحناءة «أب سامسونج الأكبر»، كان طبيعيا أن يخرج بعده «تيم باكستر»، رئيس فرع شركة سامسونج بأمريكا، ليعتذر لنحو مليون شخص اشتروا تليفون «جالكسى نوت7»، إذا كان الكبير قد فعلها، وهو يدرك أن هذا هو السبيل الوحيد كى تعود سامسونج إلى صفوف الجماهير ولو بعد حين، فكيف لا يفعله هو؟
72 ساعة فقط، منذ أن أمرت مفوضية سلامة المستهلكين الأمريكية بسحب مليون نسخة من الهاتف المعيوب، استغلتها قيادات «سامسونج» الأمريكية فى الإعداد لاعتذار مصور، تقر فيه بالخطأ التقنى الفادح، ولتعلن عبر أكبر رأس فيها خطتها لاسترداد مليون جهاز، ولتؤكد بأن «سلامة المستهلك هى أولويتنا دائما».
لم يضيعوا هذه الساعات فى البحث عن مبررات «عبيطة»، أو التفتيش فى كتاب «كيف تتهرب من المسئولية»، أو بالنفخ فى نظرية مؤامرة محبوكة تقوم على أن منافسها الشرس «أبل»، هو من دبر هذه الفخ، لدرجة أن «ستيف جوبز» شخصيا خرج من قبره، ليستبدل البطاريات المعيوبة ببطاريات سامسونج أكثر كفاءة، ولم يتحدثوا عن أنهم -أى سامسونج- باعتبارها أكبر شركة لتصنيع الهواتف المحمولة فى العالم، فإنهم حتما «مَنظُورين» أو «محسُودين» أو أن هناك اتفاقا كونيا بين الشركات العابرة للكواكب على إفشالهم وحصارهم وتجويعهم وتحويل الموظفين فى الشركة إلى لاجئين ومشردين فى غياهب المجرات.
هم فقط اكتشفوا الكارثة التى وقعوا فيها، فلم يجادلوا أو يتبجحوا أو يعملوا نفسهم «صيع»، بل قرروا كأى شخص/ مؤسسة/ شركة/ دولة، تحترم نفسها أن يعترفوا بالخطأ/ بالمصيبة/ بالكارثة/ بالجريمة التى اقترفوها، ثم وضعوا الخطة التى على أساسها يمكن أن يعالجوا ما جرى، من أجل لملمة سمعتهم التى ضُربت فى مقتل، ومن أجل العودة مرة أخرى إلى المكانة التى يعرفون أنها تناسبهم.
كتير علينا بقى أن يتعامل معنا المسئولون فى بلدنا هذا المأسوف على حاله، كما تعاملت شركة سامسونج مع شعبها المصدوم فى «جالكسى نوت 7»؟
ما الذى سيخسره المسئول من هؤلاء -كبُر منصبه أو صغر- إنْ جر البلد إلى مشكلة أو مصيبة أو كارثة، ثم قرر كأى رئيس شركة يحترم نفسه، الخروج إلى الشعب ليعترف بخطئه أولا، ثم يعتذر عنه، قبل أن يضع خطة واضحة لمعالجته؟
هل تقل جريمة قتل أشخاص عابرين بدعوى أنهم تورطوا فى قتل الباحث الإيطالى ريجينى، ثم اكتشاف خطأ الاتهام، والتعامل مع الأمر باعتباره لم يحدث أصلا أو بطريقة «جل من لا يسهو» عن جريمة انفجار بطاريات الموبايلات فى الوجوه؟
ألا تستوى كارثة التليفونات المعيبة، بتفخيخ السوق، والدخول إلى مرحلة اللعب الخطر فى وجبة المصريين الأساسية «رغيف العيش»، بإقرار عدم استيراد القمح إلا إذا تأكد خلوه من فطر الأرجوت، ثم التراجع عن هذا القرار فى أقل من أسبوع دون معرفة كيف كان استيراد القمح متضمنا الأرجوت فى البداية خطرا على حياة الشعب، ثم أصبح استيراده الآن متضمنا نفس الفطر آمنا وصحيا؟
لماذا لم يعتذر لنا أحدهم حتى يومنا هذا عن كل ما سبق أو عن، الإهمال الأمنى فى حادثة طائرة شرم الشيخ التى فخخت صناعة السياحة فى البلد كله؟ أو عن أزمة اختفاء ألبان الأطفال الرضع فجأة وارتفاع سعره؟ أو عن غياب آلاف من أصناف الأدوية المهمة التى لا يوجد لبعضها بديل؟ أو عن انفلات السوق السوداء للدولار واستقراره عند حد 13 جنيها والتعامل مع ذلك باعتباره أمرا طبيعيا يحدث فى كل الدنيا؟ أو عن ضرب زراعة القطن فى بلده الأم فى العالم (مصر لو كنتم تتناسون)؟ أو عن تعطيل العمل فى عشرات المصانع عمدا أو جهلا أو تواطؤًا وجلوس آلاف العمال فى بيوتهم؟ أو عن تعيين وزير تعليم متهور جاء ليجعل التلاميذ وأهاليهم «فئران تجارب» لأساليب ومناهج غرائبية؟
قائمة الخطايا تطول، لكن لا أحد يفكر فى الانحناء أمام هذا الشعب أبدا. لا أحد يريد أن يتعامل معنا باعتبارنا من «شعوب سامسونج»، نستحق الاعتذار عن الأخطاء والكوارث، ونستحق أن يقف المسئول ينتظر منا الصفح والعفو، وربما يكون التفسير الوحيد لذلك أن لا أحد من المسئولين فى هذا البلد يحمل تليفونات ذكية، وأنهم لا يزالون يقفون عند مرحلة الموبايل النوكيا!
مصدر الخبر اليوم الجديد
|
التسميات: مقالات
0 تعليقات:
إرسال تعليق
شاركنا برأيك
الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]
<< الصفحة الرئيسية