التقويم المصري والأمثال
الشعبية المصرية
درويش الأسيوطي - كاتب
مسرحي وباحث في التراث الشعبي / مصر
ربما
كان التقويم المصري المعروف(بالسنة القبطية )هو أول تقويم عرفته البشرية منذ
عام 4241 قبل الميلاد وضع المصريون تقويمهم . ولأن المصري عاشق لنهره (النيل ) أو ( البحر) ـــ كما يحب أن يسميه ـــ عني بكل ما يتعلق به ، زيادته
وانحســاره ، غضبه وهدأته ، وصفائه و تعكره . فتأمله تأمل العابد ،وتتبعه تتبع العاشق،واكتشف أن وصـول فيض نهره إلى العاصمة( منف)يتوافق مع
ظهور نجم لامع يشرق في نفس اللحظة التي تشـــرق فيها شمس ذلك اليوم وهو
نجم ( سيدت )أو ما نعرفه بالشعرى اليمانية
.
وتتبع المصريون ذلك النجم
الذي يظهر آخر النجوم ( سيدت ) ، فعرفوا طول دورته الفلكية وحسبوها بدقة، واتخذوها
أساسا لتقويمهم . وقسموا الدورة الفلكية لهذا النجم بحسب عدد الأبراج إلى 12 شهـرا
، و اتخـذوا من ذلك اليوم الذي تظهر فيه الشعرى اليمانية( سيدت) مع شروق الشمس
يوما لميلاد الخصب .
و لأن الحكيم المصري أول من ابتكر الكتابة والمعني بالعلوم
والمعــرفة والقياس هو الإله [ تحوت ] ، فقد أسموا أول شهر من تقويمهم باسمه [ توت
]. وقسمـوا تقويمهم هذا ــــــ أو ما نعرفه الآن بالسنة المصرية [ القبطية ]
ــــــ تبعا لمواسم الزراعة إلى ثلاثة مواسم أو فصول ، أولها موسم الفيض أو
الغمر [ أخت ] ، والثاني موسم النماء وبذر البذور [ برث ] أو الشتاء ، وآخرها فصل
الحصاد أو الصـــــــــيـــــــــف [ شمو]
.
وقسموا كل موسم إلى أربعة
أشهر [ أبد ]، كل شهر مكون من ثلاثين يومـًــا . ولما كانت الدورة
الفلكية لنجمهم أكثر من 360 يومــًـا ، ولتصحيح الحسابات ، أضافوا إلى تقويمهم
شهرا آخر أسموه الشهر الصغير أو[ النسي ] أي المتمم ، وقدروه بخمسة أيام ثم زيادة
بالدقة أضافوا إليه يوما كل أربعة سنوات ليصبح العام 365 يومـًــا وربع اليوم
. وظـل التقويم القبطي معمولا به في مصر حتى أواخر عهد الخديوي اسماعيل عام 1875م
حيث أمر الخديوي إسماعيل باستعمال التقويم الإفرنجي بناء علي رغبة الأجانب وصندوق
الدين .
والأمثال الشعبية المصرية ، مختزل خبرات الشعب المصري ، والمعين الذي
لا ينضب لحكمته المتوارثة. فقد يستخدم المثل الشعبي لنقل خبرة من جيل إلى
آخر أو من مكان إلى آخــر. وعلينـا ألا نستهين ببساطة صياغة المثل الشعبي ،
وألا تخدعنا دلالته اللفظية عن حقيقة المقصود به . فالمثل كجملة لغـــوية
يحمل دلالتين: الدلالة الأولى هي [الدلالة اللفظية] التي نفهمها من تركيب الجملة ،
أما الدلالة الأخرى وهي الأهم فأعني بها[ الدلالة القصدية] أو التأويلية ، وهي
المعنى المقصود الذي يعنيه المثل الشعبي.وتتوقف دلالة المثل الشعبي على الهدف من
صوغه ، فقد يصاغ المثل لنقل الخبرات والمعلومات ، وهنا تكـــــــون العناية بسهولة
العبارة ووضوح دلالتها مثل : ( شَرِيفي ف حِيطْ .. ولا جَامُوسِهْ فِ
غِيطْ ).. أي الجنيه الذهبي المخبأ في حائط المنزل أكثر أمانا من جاموسة في الحقل
قد تتعرض للسرقة أو الموت .
والمصري يعمد إلى اكتناز خبراته الحياتية لتستفيد
بها الأجيال في الأمثال الشعبية . فهو يطرحها مباشرة في الدلالة اللفظية للمثل :
أما ما يكتنزه من حكمته فيبدو غالبا في الدلالة التأويلية للمثل الشعبي أو الدلالة
القصدية . فعلى سبيل المثال يقول أحد الأمثلة الشعبية : [إنْ جَاكْ النِّيل
طُوفَانْ .. حـُــطْ وَلَدَكْ تَحْتْ رِجْلِيكْ ]. فالمعــنى الظاهر قد يستهجنه
البعض ويرى فيه أنانية وعدم إنسانية،لكن القليل من التأمل يكشف لنا عن الحكمة
البالغة والبليغة التي حملها المثل الشعبي، فالمثل يحث الإنسان على الحفاظ على
حياته ..!! فهي أثمن ما يملك ، وعليه أن يضحي بأي عزيز مهما كان ليحافظ على
حياته ويضرب للمعزة بالولد .
ويشتهر
كل شهر من أشهر السنة القبطية بفاكهة أو مأكول أو مشروب . وقد أورد
القلقشندى في كتابه [ صبح الأعشى في صناعة الإنشا ] على لسان أحد
الرحالة قوله ( عـــــرفتُ أكثر المعمور من الأرض فلم أر مثل ما بمصر من ماء طوبة،
ولبن أمشير، وخروب برمهات ، وورد برمودة ، ونبق بشنس ، وتين بؤونة ، وعسل
أبيب ، وعنب مسرى، ورطب توت، ورمان بابه ، وموز هاتور، وسمك كيهك ) .
التقْويمُ المصريُّ :
تبدأ السنة المصرية بشهر
(توت) ثم تتوالى الأشهر: (بابه)، (هاتور)، (كيهك)،( طوبة) ،
(أمشير) ، (برهمات) ، (برموده
)، (بشنس) ،( بؤنه) ، (أبيب) ، (مسرى) ثم الشهر الصغير ( نسي ) أو
الملحق أو المتمم . ولأن التقويم المصري وضع أصلا لضبط مواعيد الزراعة والحصاد ،
قسم المصريين السنة إلى ثلاثة مواسم أو فصول تبعا للمواسم الزراعية :
موسم الدميرة أو موسم الغمر [
أخت ]:
ويتكون الموسم من أربعة أشهر إضافة إلى الشهر الصغير هي :
أبيب :
إشارة إلى [ أبيفي] الثعبان الذي قتله حورس
.
مسرى : وتعني [
مس رع ] أي ابن الشمس .
نسي : أي
المتمم أو الشهر الصغير وهو 5 أو 6 أيام
.
و قد أسموا أيام المتمم الخمس
بأسماء مجموعة من الآلهة وهي: أوزوريس واٍيزيس وست ونفتيس وحورس ، وعندما اضافوا
إليها يوما سادسا كل أربع سنوات قدموه هدية للمعبود تحوت
.
توت :
تقديرا لـــ [ تحوت ] الحكيم أو آلة الحكمة والعلوم . والمعبر عنه بصورة رجل
له رأس طائر اللقلق .
بابه :
أو( با أوبي) تقديرا لإله الزراعة والنماء [ با ثب وت] .
موسم النماء أو الشتاء
( برث أو برديت ) :
ويتكون الموسم من أربعة أشهر :
هاتور:
تقديرا لجمال [ حتحور ] إلهة الجمال والمعبر عنها بصورة امرأة ذات رأس بقرة .
كيهك :
تقديرا للإله [ كا ها كا ] إله الخير المعروف بالثور المقدس .
طوبه :
تقديرا لإله المطر الأعلى [ طوبيا
].
أمشير :
نسبة إلى [ مسير] أو (مخير) إله الزوابع والأعاصير .
موسم الحصاد أو الصيف (شمو) :
ويتكون من أربعة أشهر هي :
برمهات :
تقديرا لإله الدفء [ با مونت ]
برموده :
تقديرا للإله [ با راحاموت ] إله الموت والفناء
.
بشنس :
تقديرا لإله الظلام والقمر [ با خنس ] .
بئونه :
تقديرا لإله الأحجار والمعادن [ با أوني
] .
الأشهر المصرية في أمثالنا
الشعبية :
شهر (تُوتْ) :
شهر
توت ـــ بإمالة الواو إلى الفتح ــــ بدء التقويم المصري ، وفي اليوم
الأول منه يصل الفيضان إلى العاصمة ( منف) ، وكان المصريون يحتفلون بمولد
العام الجديد ، وما يزال بعض المصريين يحتفلون باليوم باعتباره [عيد النيروز] ،
ولقد صبغ نصارى مصر الإحتفال في ذلك اليوم بصبغة دينية بعد أنكان يوم فرح
ومهرجانات بربطه بذكرى شهدائهم ، وصار عندهم ( يوم الشهداء) . ويبدأ شهر توت من
يوم 11 سبتمبر بالتقويم الميلادي . ومن الأمثال التي ورد فيها اسم توت ما يلي :
إنْ
جَالَكْ تُوتْ .. رَكِّبْ الأنْتُوتْ :
يقول المثل الشعبي في دلالته
اللفظية : إن جاءك شهر توت فسارع بتركيب الأنتوت . والأنتوت
هو جزء صغير من مكونات
المحراث الذي ابتدعه المصريون لحرث الأرض الطينية التي أنعم الله بها على شعب مصر
تمهيدا لبذر البذور بها . والأنتوت عبارة عن رابط خشبي صغير يربط بين [
الكـَـــرَبْ ] الذي يوضع على عاتق الثور أوالدابة التي تجر المحراث وبين [
العَمُودْ] الخشبي الواصل بين [الكرب] و[ السِّكَهْ ] أوالمثلث المعدني الذي ركب
بزاوية حادة مع [العامود]. ويطلق على العامود والسكة اسم المحراث أما الكرب
فهو قطعة خشبية يركب بها [ حِلْسْ ] أو إثنان حسب ما نستخدم من حيوانات ، ويستخدم
الكرب في جر العديد من الآلات الزراعية مثل : المحراث أو الساقية أو النورج أو
البغلة .
ويهدف هذا المثل الشعبي إلى نقل بعض الخبرات
العملية من جيل إلى آخر بأن شهر توت هو الشهر الذي ينبغي لنا فيه أن نحرث الأرض ،
استعدادا للزراعة . لذلك علينا أن نبادر إلى تجهيز وإصلاح المحاريث وإختيار الدواب
التي تجرها .
لا
خِيرْ في زَادْ مَشْحُوتْ .. وَلا نِيلْ يِيجي في تُوتْ
.
يطلق لفظ [ النيل] على
نهر النيل في التراث الشفاهي المصري على حالة الفيضان فقط ، وقد
يسمى [بحر النيل] أيضا
، لكن كل الإشارات التراثية إلى النهر الذي يجري في أرض مصر تشير إليه
باعتباره [ البحر ] وذلك تعظيما لماء النيل . وبهذا نجد أن لفظة النيل الواردة في
هذا المثل الشعبي الذي نحن بصدد فهمه تعني الفيضان . ويقول المثل : لا خير في زاد
مشحوت أي تم تسوله من الآخرين ، فقد يسد الجوع لوجبة أو ليوم ، لكنه لا يمثل شيئا
يمكن الاعتماد عليه. تماما مثل زيادة ماء نهر النيل التي قد تحدث في شهر توت. فضرر
الزيادة على الأرض أكثر من نفعها ، فقد يعطل عملية تجهيز الأرض للزراعة التي تبدأ
عادة في شهر توت ، وهي الأرض التي لا يركبها الماء
.
ورغم الصياغة الخبرية
المباشرة التي تم صوغ جملة المثل بها بفرشها [ لا خير في زاد مشحوت ] ، وغطائها [
ولا نيل ييجي في توت ] ، إلا أن الدلالة القصدية للمثل تشير إلى نصيحة مهمة
مفادها أن الخير كل الخير في جريان الأمور في مسارها الطبيعي ، ومن الطبيعي أن
يأكل الإنسان من عمل يده ، فلابد أن يكد الإنسان ويكدح ليتحصل على زاده ، والخير
كل الخير أن تحدث الأمور في وقتها لا قبله ولا بعده .، نعم الفيضان خير فهو يأتي
بالماء وبالطمي ، لكنه حين يحدث في غير وقته يصبح خرابا .
تُوتْ
.. يِقُولْ للْحَرْ مُوتْ .. يِمُوتْ
:
نسبة إلى انكسار درجة الحرارة
نسبيا في ذلك الشهر. فمع دخول شهر( توت) ، تتراجع درجات
الحرارة فكأن الشهر يأمر الحر
بالموت فيموت طائعا .
شَهْرْ (بَابِهْ) :
يبدأ شهر( بابه) ، الشهر
الثاني من التقويم المصري ونهاية موسم الفيضان، من 11أكتوبر
الميلادي . في هذا الشهر
تنحسر مياه الفيضان عن الطمي المترسب على جانبي النهر ، ويبـــــدأ الفلاح المصري
في بذر البذور على تلك [ الروبة ] وتلويقها باللوح ، ويتركها لتنبت. أما الأرض
التي لا يبلغها الفيضان فيتم حرثها وتجهيزها للبذر . ويرى البعض أن الشهر أخذ اسمه
مـن اســـم الإله [ با ثب وت] إله الزراعة ، وهناك تأويل آخر لاشتقاق اسم
بابه يرتكز على أن اسم مدينة الأقصر ( طيبه ) أو (أبه) و ( با أبه) إله طيبة ،
إشارة إلى انتقال الإله آمون من معبده في الكرنك إلى معبده في الأقصر وهو عيد
[أوبت ] ومن الأمثال التي ورد فيها ذكر بابه ما يلي
:
إنْ
صَحْ قَمْحْ بَابِهْ .. يِغْلِبْ النَّهَابِهْ .. وإنْ خَابْ مَا يْجِيبْ ولا
لِبَابِهْ.
يقال صح الزرع أي نما عفيا
مثمرا أجود الثمار، ويقال خاب الزرع إذا شب ضعيفا قليل الثمر ،
واللبابة هي لب الرغيف أو
القطعة الطرية الصغيرة منه . أما النهابة فهم لصوص المحاصيل . فعندما
يصح القمح المزروع في هذا الشهر ( بابه) يعطي محصولا وافرا ، لا يؤثر عليه ما
ينهبه اللصوص منه لوفرته ، لكنه إذا خاب فخيبته ثقيلة ، فقد لا يعطي لا رغيفا
واحدا بل ولا لقمة من الخبز . وهناك رواية أخرى للمثل تقول : إن صح قمح بابه ..
يبقى من رزق الغلابه .. وإن خاب قمح بابه ما يدي ولا لبابه . والواضح من الروايتين
أن هذا المثل معني بنقل بعض الخبرات الفلاحية التي تهم من يتولـــــون زراعة الأرض
بتبصيرهم بنتائج زراعة القمح في هذا الشهر
.
إنْ
دَخَلْ بَابِهْ .. خُشْ وسَكِّرْ البَوَّابِهْ
..
يعد دخول شهر بابه بداية
حقيقية لفصل الشتاء ، وتبدأ الرياح أو قل النسائم الباردة في المرور بل قد تصاحب
تلك الرياح الباردة نوات وأمطار خاصة على الوجه البحري ، لكن حتى الصعيد لا يسلم
من نسائم بابه الباردة ، لذا ينصح المثل بالدخول إلى المنازل إذا لم يكن هناك ما
يدعو للخروج وسك أو بإغلاق الأبواب نهارا وليلا ، منعا لتسرب البرودة إلى داخل
البيوت . وللمثل رواية أخرى تقول : إن خش بابه .. خش واقفل الدرابه .. والدرابة
سداد من القماش للكوة أو النافذة .
شَهْر (هَاتُورْ) :
شهر (هاتور) هو ثالث أشهر
التقويم المصري ، وبداية فصل الشتاء ، ويبدأ في العاشر من شهر نوفمبر
الميلادي . وفيه يبدأ صوم الأشجار التي تستعد لطرح ثمارها بعد أشهر . وتغطي
المزروعات وجه الأرض ، لهذا سمي هذا الشهر باسم [ حتحور ] .. إلهة الجمال والتي
يعبر عنها بتمثال إمرأة ذات رأس بقرة أو تمثل بتمثال بقرة قرناء . ومن أهم الأمثال
التي سمعناها والوارد فيها اسم الشهر هاتور ما يلي
:
إن
فاتك هاتور .. استنى السنة أما تدور.
والمثل يحذر الفلاح المصري من التكاسل عن بذر القمح هذا
الشهر ، فإن تأخر البذر عن شهر هاتور فعلى من يرغب في زراعة القمح أن ينتظر دوران
الأيام حتى يأتي هاتور مرة أخرى في العام المقبل . فتأخر بذر بذور القمح في هذا
الموعد يخرج أعوادا تتعرض لبرد قد يقتلها والأعواد التي تبقى لن تكون ذات
سنابل ممتلئة . ومن الواضح أن المثل في صياغته المباشرة الواضحة لا يقصد إلا
نقل الخبرات التي يحرص الفلاح على نقلها إلى الأجيال التالية
.
هَاتُورْ
... شَهْرْ الدَّهَبْ المَنْتُورْ.
يقصد بالذهب هنا حبوب القمح
التي تستخدم كتقاوي ، فهو الشهر الذي ينثر فيه القمح الذهبي
في شقوق الأرض المحروثة ،
فمعظم الفلاحين يبذرون القمح خلال شهر هاتور . وهذا المثل كسابقه يحرص على نقل
الخبرات لا أكثر .
شَهْرْ ( كِِيََاكْ أو
كِِيََهْكْ ) :
وقد ورد اسم شهر (كياك) ـــ الشهر الثاني من أشهر موسم
الشتاء ، والشهر الرابع من التقويم المصري ـــ في الأمثال الشعبية كما ورد
نُطقه الآخر( كيهك ) في بعض الأمثال وقد تستبدل الهاء بالحاء في بعض المناطق
. . وهذا الشهــــر يبدأ في العاشر من ديسمبر وفقا للتقويم الميلادي . ويتميز
بالبرد الشديد وفيه يقصر النهار ويطول الليل . وقد أسمي الشهر بهذا الاسم تقديرا
لإله الخير أو الثور المقدس [ كا ها كا ] . وأهم الأمثال التي وصلت إلي ما يلي :
كِيَهْكْ
.. بَرْدْ فُوقْ .. وبَرْدْ تَحْتْ
:
ويعني المثل أنه مع قدوم شهر كيهك تسود البرودة الجو في الأعلى
، كما تبرد التربة تحت
الأقدام أيضا . وهذا البرد من
فوق ومن تحت له تأثيره على نمو النباتات . فالمثل يشير إلى البرد الذي يسود
الهواء بتعبير [ برد فوق ] ويشير إلى انخفاض درجة حرارة التربة بقوله [ برد تحت ]
وفيه تضعف قدرة النبات على النمو .
إللِّي مَا يِشْبَعْ بِرْسيمْ
فِ كِيَاكْ .. مَدْعِي عَلِيهْ بالْهَلاكْ
.
البرسيم
واحد من أهم نباتات الأعلاف الشتوية ، وهو نبات يقطع من فوق الأرض فيعاود
النمو
وتسمى عملية القطع [ الحشه ]
. وتبلغ [ الحشة الأولى ] من البرسيم أو [ حشة الراس ] أقصى إزدهارها
وطولها في شهر( كيهك)، وتقبل
الحيوانات على التهام هذا الغذاء الأخضر المحبب والمسمن والمدر للبن. ويقول
المثل أن الحيوان الذي لا يأكل لحد الشبع من البرسيم ، ولا يتناول القدر
الكاف من تلك العليقة الخضراء في هذا الشهر، سيهلك لاشك في نهاية الأمر ، فهو
كأنما دعا عليه مستجاب الدعوة بالهلاك وسيهلك بالتأكيد
.
شَهْرْ (طُوبَهْ) :
شهر ( طوبه ) هو أكثر شهور السنة شهرة ببرودة الجو وبرودة
التربة ، وهو الشهر الثالث من موسم الشتاء أو النماء ، لكن كما يقول المثل الشعبي
[ الاسم لطوبه .. والفعل لأمشير ] فهو رغم أنه الأكثر برودة إلا أن إحساسنا
بالبرد في أمشير أكثر ، نظرا للتيارات الهوائية . ويبدأ شهر طوبة من التاسع من
يناير . ويسمى عند بعض أهل مصر من النصارى بشهر [الغطاس] الذي يحتفل به في نهاية
الثلث الأول من طوبة . وقد بلغنا عدد من الأمثال الشعبية التي تتعلق بتلك
الظــــــواهر التي تحدث في شهـــر( طوبه ) منها
:
طُوبَهْ .. تِخَلِّلي
الصَّبِيَّهْ كَرْكُوبَهْ .
الصبايا أكثر حركة من السيدات المسنات ،وأكثر خفة في السير ،
لكن لشدة برودة الجو في شهر طوبه تقل حركة الفتيات الصبايا حتى تخالهن
عجائز، تكاد تسمع أصوات عظامهن تكركب حين يتحركن . وهذا بالطبع من المبالغات التي
تدل على محبة الشعب المصري للفكاهة والمرح
.
عَدِّيْ
يَا طُوبَهْ .. مَا تْبِلِّي عَرْقُوبَهْ
.
يتمنى المتحدث المعبر عنه المثل ، أن يمر شهر (طوبه) دون التعذيب
بالبرد ، فهو يخاطب
الشهر شديد البرد راجيا أن
يمر الشهر كله دون أن يضطر لغمس إخمصه في الماء [عرقوبه ] .. لشدة برودة
الماء في ذلك الوقت .
شَهْرْ ( أمْشِيرْ) :
يسمى الشهر بأمشير أبو الزعابير ، حيث يشتهر الشهر بهبوب
الرياح من اتجاهات مختلفة ،
والتي تهيج الأتربة، وتحمل
البرد وربما الأمطار أيضا. ويعد شهر (أمشير) بداية للتغير في الطقس والتلويح
باقتراب فصل الحصاد . فيقال : [يُغْطُسْ النُّصْرَانِي .. ويِتْخَلَّقْ الدَّفا
التَّحْتَاني ] . والطقـــس المسيحي المسمى بالغطاس يكون في شهر طوبة كما
أشرنا ، وفي أمشير تتحسن درجة حرارة التربة مما يساعد على النمو السريع . ويبدأ
الشهر [ أمشير ] في التاسع من فبراير بالتقويم الميلادي . ومن الأمثــال التي
بلغتني و فيها ذكر لأمشير :
أمْشِير .. يِخَلِّلي
العَجُوزِهْ تِقِيدْ الْحَصَيرْ .
يحاول
القرويون التغلب على برودة الطقس بإشعال النار في أعواد الخشب والفحم في المواقد ،
بل وحملها إلى أماكن النوم .
أو النوم في الأماكن الدافئة التي تشعل فيها النار، كالنوم فـوق (الأفران )
والكوانين وغير ذلك. وللتعبير عن شدة الإحساس بالبرودة في هذا الشهر( أمشير )
يقول المثل أن المرأة العجوز ــــ الأكثر إحساسا بالبرد ــ إذا
لم تجد ما تشعل به النار لتستدفيء ، جعلت من فراشها[ الحصير] وقودا لتوفر لنفسها
الدفء .
أمْشِيرْ يِقُولْ لِلْزَرْعْ
سِيرْ يِسِيرْ .. والصُّغَيَّرْ يِسَاوِيْ الْكَبِيرْ
.
فعل الأمر سر الذي ننطقه في صعيدنا [ سير ] من الألفاظ السحرية التي
يستخدمها السحرة
وكتاب الأعمال السحرية
ويستجيب لها الخدام من الجن . وكأنما المثل أراد الشعبي أن يشير إلى التغير الذي
يشبه السحر والذي يصيب الزروع بقدوم أمشير . فالنباتات رغم تفاوتها في الطول
قبــــــل قدوم هذا الشهر، سرعان ما تتساوى في الطول ، فيتساوى القصير
مع الطويل والصغير مع الكبير .
شَهْرْ [ بِرِمْهَاتْ أو
بِرِهْمَاتْ ]:
(برمهات) موعدنا مع الدفء ، لهذا لم يكن غريبا أن يطلق على
هذا الشهر اسم إلـه الدفء ( بامونت ) . وفي هذا الشهر يبدأ نضج الكثير من المحاصيل
الشتوية . ويبدأ شهر برمهات أو برهمات
كما ينطقه بعض أهلنا في
الصعيد في التاسع من شهر مارس من كل عام ميلادي . ولم يتصــــل بعلمي من
الأمثال الشعبية ما ورد به ذكر برمهات إلا المثل التالي :
بِرِهْمَاتْ
.. إطْلَعْ الْخَلا وهَاتْ .
تستخدم مفردة هات بدلالتها المعجمية الفصيحة بمعنى أجلب أو أحضر ،
بينما تحمل كلمة
إطلع بأكثر من دلالة .
فقد تستخدم بمعنى إصعد فيقال إطلع النخل أو إطلع الدور الثاني مثلا ،
وقــــــد يفيد والمضارع منها الظهور أو التبين فالمثل الشعبي يقول : كُلْ اللي
نْقُولْ عَلِيهْ مُوسى ..!! يِطْلَعْ فَرْعُونْ !! . أما هنا فتعني
الكلمة معنى الخروج . وقد يروى هذا المثل في صورته المختصرة تلك ، وقد يضاف إليه
تعبير[ من كل الحاجات ] . وقد تستبدل مفردة الغيط بمفردة الخلا وهكذا .
والمثـــــل يشير إلى توافر الخيرات في الحقول والخلاء، فالمحاصيل الشتوية إما
أنها نضجت بالفعل أوفي سبيلها إلى النضج . ومن يخرج إلى الخلاء والحقول سوف يحمل
منها كل الخير .
شَهْرْ [ بَرَمُودِه] أو
[بَرْهَمُودِه] ):
(برموده) أو (برهموده) كما ينطقه بعض أهلنا في الصعيد وهو
الشهر الأول من أشهر موسم الحصاد ، هو الشهر المشتق اسمه من اسم إله الموت والفناء
(باراحموت) . فالمعروف أن أعــواد معظم المحاصيل الشتوية متى تم نضج ثمارها أو
سنابلها دخلت في طورالتيبس والموات، لهذا استدعي هذا الاسم واشتق من اسم إله
الموت عند قدماء المصريين. ويبدأ شهر برموده في العاشر من أبريل حسب التقويم
الميلادي .وقد وجدت الإشارة إلى هذا الشهر في المثل التالي
:
بَرَمُودِهْ .. دُقْ بِالْعَمُودِهْ
من المحاصيل الشتوية محصول
الشعير ، ودرس الشعير بالنوارج كغيره من المحاصيل التي تدرس
لا يخلصه تماما من القشرة
ويجعله صالحا للإستخدام كالقمح أو الفول مثلا . لهذا يعمــــــد الفلاحون إلى
استخدام أسلوب آخر لتخليص حبة الشعير من القشرة الخارجية الخشنة وذلك بالدق .
والدق أسلوب بديل للدرس [ بالنَوَارِجْ ] لتخليص الحبوب من مكامنها في السنابل أو القناديل
أو ما شابه . ويستخدم الدق في مساطيح الذرة الرفيعة ، حيث تكوم القناديل كسماط
ويصطف مجموعة من العمال يضربون السماط حتى تنفصل كل الحبوب من القناديل وتتحول إلى
[ قِيشِهْ] .أما الشعير فيتم دق حبوبه داخل مصاحن خاصة [ مَدَقْ ] بعد
درس الشعير بالنوارج كالقمح تماما ، وتستخــدم لعملية الدق في الحالتين أعـــــواد
خشبية من الشوم ، يتم الدق بها على حبات الشعير لتقشير حبوبه . والمثل معني
بنقل خبرة معينة يراها الفلاحون ضرورية .
شهر[ بَشَنْسْ ]:
ينسب الشهر إلى ( با خنس ) إله الظلام والقمر ، وهو الشهر
الثاني من أشهر الصيف. و يبدأ شهر (بشنس) من التاسع من شهر مــــايو الميلادي .
وفيه يتم حصاد المحاصيل الشتوية ، فتبدو الأرض الزراعية سوداء بعد أن كانت صفراء
أو ذهبية اللون . وربما كان سواد التربة هو ما استدعى صورة إله الظلام ( باخنس)
إلى الذاكرة المصرية عند تسمية شهر الخير. والمثل الذي ارتبط بهذا الشهر هو التالي :
بشنس .. يكنس الحيطان كنس .
الكنس هو الإزاحة والتنظيف ،
والمثل يشير إلى أنه بنهاية شهر بشنس تكون الحقول قد أخليت
من المحاصيل الشتوية واستعدت
إما لزراعة صيفية أو لاستقبال مياه الفيضان الموسمية
.
شَهْرْ (بؤونه) :
شهر بؤنه هو نهاية موسم الحصاد [ شمو ] ، وفيه يتم
الانتهاء من عمليات درس ومرواح الغلال والتبن ، وتخزينهما . والاستعداد لاستقبال
موسم الفيضان . وتزرع الذرة الرفيعة التي تـــحصد قبل غرق الأرض بمياه الفيضان في
(مسرى) . وفي هذا الشهر تشتد درجة الحرارة . وقد أخذ الشهر اسمه من [ با أوني ]
إله الأحجار والمعادن . وما يزال أطفالنا يغنون :[ أوني .. أوني يا حجر..]حتى الآن
. ويبدأ شهر (بؤنه) في الثامن من شهر ( يونيه) الميلادي . ومن الأمثال التي بلغتني
و فيها ذكــــر للشهر ( بؤونة) ما يلي :
بَؤُونِهْ
... فَلاَّقِةْ الْحَجَرْ :
تشتد درجة الحرارة في شهر (بؤنه) بدرجة لافتة ، حتى أن
بعض الأحجار الجيرية تتفتت
من شدة الحرارة ، لذلك سمي
الشهر بفلاق الحجر لهذه الظاهرة . والفلق هو الفرق . كقوله تعالي
[ وإذ
فرقنا بكم البحر .. ] صدق الله العظيم
.
إنْ
جَاكْ بَؤُونِهْ .. حوِّل على الطَّاحُونِهْ
.
والتحويل
هنا بمعنى النقل ، أي أن المثل يشير إلى نقل الحبوب التي يراد طحنها إلى الطاحون .
والمثل يعني أن نبدأ في طحن
الحبوب ، وتحويلها إلى دقيق ، وذلك استعدادا لمواجهة طلبات البيوت على
(العيش)الخبز خلال فترة الفيضان ، والتي قد لا تتيح للناس سبل الوصول إلى الطواحين
. كما يقال في مثل آخر : في بؤونه .. خزِّنْ المُونِهْ
.
شَهْرْ (أَبِيبْ) أو (بِيبْ) :
شهر[ أبيب أو بيب] أو إبب
نسبة إلى [إبيفي] ( الثعبان الذي قتله حورس انتصارا على الشر و النيْل
من عدوه تيفون) أو
التحاريق. ويوافق بداية شهر أبيب اليوم الثامن من يوليو بالتقويم الميلادي.
وأبيب هو بداية فصل الفيضان أو الغمر (أخت) ، فيبدأ تغير لون الماء إلى اللون
البني وتظهر أسماك (القرقار) في المسارب والترع والنهر ، ويقال : ف أبيب ..
النيل له ترتيب ..!! وكأنما يرتب نهر النيل نفسه في هذا الشهر ،
استعدادا لغمر الأرض المصرية بالماء والطمي . ومن الأمثال التي ورد فيه ذكر الشهر
أبيب ما يلي :
بِيبْ .. مَايِخْلاشْ
مِ الرَّطِيبْ :
(الرطيب) هو التمر الناضج وهو
ما يطلق عليه الرطب ، و(ما يخلاش) تعني لا يخلو . والمثل
بهذه الصياغة يشير إلى أن
ثمار النخل تبدأ في النضج فتأخذ ألوانها الحمراء أو الصفراء أو الخضراء في شهر
أبيب وربما آخره ، المهم .. لا ينقضي شهر أبيب إلا وفي إمكاننا الحصول على تمر
ناضج من بعض النخيلات .
أبِيبْ .. طَبَّاخْ الْعِنَبْ
والزَّبِيبْ :
الطبخ هو إنضاج الطعام باستخدام الحرارة . ومن يتولى عملية
الطبخ يسمى الطباخ . ويرى
المصريون أن شهر أبيب الطباخ
الذي ينضج العنب على أشجار الكروم ، وهو أيضا الشهر المناسب
لصناعة الخمر المعروف بالزبيب
. كما يحول شهر أبيب العنب البناتي إلى نقل لطيف يجفف ويحفظ لوقت الاستخدام .
شَهْرْ [ مِسْرَى ] :
شهر مسرى هو أعنف أشهر
الفيضان تأثيرا على الفلاح المصري ـ ففيه تبلغ زيادة ماء النيل أعلى ارتفاع
لها ، وفيه تغمر مياه الفيضان معظم الأرض المصرية ، خـاصة في الوجه
القبلي . ويسابق الفلاح مياه الفيضان لينتشل أعواد الذرة قبل أن يدهم الماء في
الحقول. ويبدأ شهر [ مسرى ] من يوم السابع من شهر أغسطس بالتقويم الميلادي .
ويعد شهر مسرى الشهر الثاني من أشهر الفيضان . ويليه الشهر الصغير [ النسي ]
المتمم للسنة المصرية بأيامه الخمس أو الست والذي يبدأ من الســــــــادس من
سبتمبر . وقد أخذ الشهر المصري اسمه من (مس رع) أي [ ابن الشمس ] والمقصود
به حورس. ومن الأمثال الشعبية التي ذكر فيها اسم شهر مسرى
:
مِسْرَه .. تِدَوِّبْ
الطُّوبَهْ الْعِسْرِهْ .
المثل يقول أنه في شهر ( مسره ) أو ( مسرى ) تذوب الطوبة العسيرة
الذوبان من شدة ارتفاع
الماء وغمره كل الأراضي .
وللمثل رواية أخرى تقول : مسره تفتح الترعه العسرة، أي أن المياه في مسرى ترتفع
حتى أنها تجري في أكثر الترع ارتفاعا عن سطح النيل . وواضح أن المثل في روايتيه
معني بنقل الخبرة كمعظم الأمثال المتعلقة بالعمل والإنتاج
.
لعلك لاحظت أنني أعدت ترتيب الأشهر داخل المواسم
على غير المشهور في الكتابات العربية في هذا الصدد ، فقد اعتمدت على خبراتي
الخاصة فأنا عشت بنفسي أيام الفيضان . وكانت أشهر[ أبيب ومسرى وتوت وبابه ] في
معظم أيامها خالية من العمل . فبعد قطع الذرة الرفيعة ومــــــــا يوازيها
من تلك المحاصيل الصيفية ، تدخل القرى في بطالة موسمية حتى تبدأ مياه النهر في
نهاية شهر توت وخـــــــلال شهر بابة ـــ حسب موقع الأرض ــ في الانحسار عن
الأراضي الواطئة التي تروى بري الحياض ، ويبدأ بذر الحبوب في تلك الطمية ولا
تروى مرة أخرى حتى تنضج . أما الأراضي المرتفعة فلها شأن آخر .
مصدر الخبر مجلة الموروث الشعبي الالكترونية